كيف يفقد السياسي مبادئه؟

18 فبراير 2019 - 11:04

يُورِد روبرت سيالديني، أستاذ علم النفس بجامعة أريزونا، في كتاب له حول أساليب التأثير والإقناع، قصة التحول النفسي الذي ظهر على الأسرى الأمريكيين في الحرب الكورية (1950-1953)، وكيف تخلوا عن مبادئهم وتلاشت علاقات الصداقة بينهم، فضعفت وطنيتهم، ووجدوا أنفسهم متعاونين مع عدوهم، مقدمين له خدمات كثيرة وحاسمة، دون خضوعهم لما هو متعارف عليه من ممارسات التعذيب في المعتقلات.

يتحدث سيالديني في كتابه المعنون بـ:»التأثير..علم نفس الإقناع»، عن أبحاث أجراها عدد من علماء النفس الأمريكيين على عينات من أسرى الحرب الكورية، تُوجت بالتوصل إلى أن هؤلاء الأسرى خضعوا لبرنامج مكثف، استهدف التأثير على نفسياتهم وجعلهم ينخرطون تلقائيا في ما يُراد منهم فعله، دون إخضاعهم للتعذيب والتعنيف، هذا البرنامج تؤطره نظرية أُطلق عليها اسم «الالتزام والثبات».

إعمال هذه النظرية يقوم على تشجيع الخاضعين لها على الوشاية ببعضهم، وتشجيع على الانتقاد المكثف للذات، وتفكيك العلاقات الودية بما يمنع التعاطف والمساندة فيما بينهم، للوصول في النهاية إلى قتل الروح الوطنية.

وكشفت الأبحاث أن من كانوا يديرون المعتقلات، توجهوا إلى الأسرى الأمريكيين بلغة لينة، وبتصرفات تُبعد عنهم نية الإيذاء، فكانوا يقدمون لهم الأكل بكميات مقبولة، ويمنحون لهم حرية التحرك داخل المعتقل، دون حواجز ولا أسلاك شائكة، مقابل ذلك وضعوا في بداية الأمر جوائز لكل من يكشف أي محاولة للهرب، بعدما جرى تقسيم الأسرى إلى مجموعات بناء على معايير محددة.

إلى جانب ذلك، سعى مديرو المعتقل، حسب الكِتاب المذكور، إلى انتزاع تصريحات أو تنازلات صغيرة وغير ذات قيمة في البداية، تبدو للأسير مجرد كلام لا يضره ولا يضر دولته، كأن يُطلب منه التعبير عن أن أمريكا ليست دولة مثالية، أو أن البطالة ليست مشكلة في الدولة الشيوعية، وما إن يصرح الأسير بهذا الأمر، حتى يُدفع لتوثيق تصريحه وموقفه، فيتم بته مسجلا بصوته، أو مقروءً على أثير الإذاعة الموجهة لداخل المعتقل وللجيش الأمريكي، حتى يسمعه الآخرون، فيضطر إلى الدفاع عن الموقف المذاع، لكي لا يبدو متناقضا مع نفسه، ويفقد ثقة من حوله، حسب ما يعتقد.

يستمر موضوع التنازل والتصريح، ويكبر ما يُطلب من الأسير شيئا فشيئا، مع استمرا عملية التوثيق والإذاعة، وبالموازاة مع ذلك، تجري عملية تسميم العلاقات بين الأسرى، لإفقادهم الثقة فيما بينهم، إما من خلال عزلهم عن بعضهم، أو تشجيع الوشاية، مع عدم تعذيب الموشى به وتمكين الموشي من جائزة، لتشجيع الآخرين على الفعل نفسه، وحتى لا يحس الأسير الموشي بتأنيب الضمير، الذي يمكن أن يُفسد عملية التأثير برمتها.

في النهاية، عندما عاد الأسرى الأمريكيون، لوحظ أنهم قطعوا صلاتهم بباقي رفاقهم، واختار كل واحد منهم أن يضع نفسه في زنزانة بدون قضبان، بعدما اكتشفوا أنهم تنازلوا عن مبادئهم وتعاونوا مع عدوهم، ضد بلدهم، لكن لم ينفعهم ذلك فأصيبوا باليأس، فلا هم نفعوا أنفسهم ولا رفاقهم ولا دولتهم.

في الحقيقة، هذه النظرية لا تطبَّق فقط، مع أسرى الحرب بين الدول، لأن آثار تطبيقها بادية بجلاء في الحياة السياسية، مع التنظيمات والأحزاب داخل الدولة الواحدة، وذلك ما يفسر تغير مواقف كثير من النخب الحزبية وغيرها، وتراجعها عن قناعاتها، بل استبدالها بقناعات أخرى تصل حد التناقض مع ما عرفت به، كل ذلك يقع بمجرد انتقال هذه النخب – إلا القليل منها- من موقع المعارضة إلى موقع السلطة أو القرب منها، وفي الغالب يكون مصير الأحزاب والجماعات، التي خضع مسؤولوها الفاعلون إلى نظرية «الالتزام والثبات»، هو الانشقاق أو حدوث تغيير كبير في هويتها وجيناتها، وتصبح في الأخير خادمة لمطبّق النظرية.

حتى لا نذهب بعيدا، فإن قيادات حزبية عاشت، وأخرى تعيش حاليا، مثل ما عاشه الأسرى الأمريكيون في معتقلات الحرب الكورية، والمعتقل قد يكون مقاعد برلمانية، وقد يكون مناصب حكومية، أو سفارة أو كل ما يتيح العزلة والإبعاد عن الأصدقاء وعن عموم الناس!

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي