يونس مسكين يكتب: الجهوية الموؤودة

23 ديسمبر 2019 - 18:00

تابعت باهتمام وتركيز كبيرين ما شهدته مدينة أكادير، الأسبوع الماضي، مما أطلق عليه اسم «المناظرة» الوطنية حول الجهوية المتقدمة، وأول تساؤل تبادر إلى ذهني، وأنا أراقب هذا الحج الجماعي لأكثر من 1400 شخص نحو عاصمة سوس في مشهد يذكّر بتقليد «المُوسْم»، هو: ما الذي يمكن أن يحمله فتح نقاش كبير من هذا الحجم حول الجهوية، بعد الطواف المكوكي الذي قامت به لجنة عمر عزيمان قبل عشر سنوات، والطاقة الكبيرة التي بذلها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في عهد شكيب بنموسى -الذي يقود حاليا لجنة النموذج التنموي- لوضع أساس نظري يسمح بالشروع في تطبيق الجهوية من الصحراء؟

فإذا كان النقاش العام المراد فتحه عبر لجنة بنموسى، هو تلمّس طريق الخروج من حالة التيه والغموض وضبابية الأفق التي نعيشها حاليا، فإن تقديم موضوع الجهوية بهذا الشكل لا يعدو أن يكون تقليبا للمواجع ونكأ للجراح.

وإذا كان البعض يستطيب دسّ رأسه في الرمال والاستسلام لخطاب تجميل الواقع القبيح، والذي يريدنا أن نعتبر موضوع الجهوية واجهة من واجهات النجاح، فإن الواقع المرّ الذي لا يرتفع يقول إن ملف الجهوية واحد من نوافذ الخيبة الكبرى، ومن مداخل وأد المحاولات الإصلاحية التي جرت في السنوات الأخيرة، بمبادرة وحرص ملكيين.

الحقيقة أن مبررات التساؤل والاستغراب تتبدّد حين نلتفت إلى الجهة المنظمة للمناظرة التي جرت في مدينة أكادير، أي وزارة الداخلية. فإذا كان مشروع الجهوية، كما طرحه الملك في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء سنة 2008، وخطاب تنصيب اللجنة المكلفة بإعداد تصوّر تنزيل الجهوية المتقدمة في يناير 2010؛ قد آل إلى الفشل، باعتباره مشروعا لإصلاح الدولة وتطعيمها بلقاح الديمقراطية من مداخلها الجهوية والمحلية؛ فإن الطرف الوحيد الذي خرج «ناجحا» من هذه المحاولة هو وزارة الداخلية. كيف لا وهي ترى ولاتها وقد أصبحوا الحاكمين بأمرهم على رأس الجهات الـ12 التي جرى تقسيم التراب المغربي إليها؟

هل مازال ضروريا أن نذكّر بأن مشروع الجهوية المتقدمة طُرح في سياق مبادرة المغرب إلى اقتراح منح حكم ذاتي للصحراء؟ هل نسينا أننا قبل عقد واحد من الزمن كنا بصدد التفكير في فكّ عقدة الانسداد الديمقراطي من الأطراف بعدما عجزنا عن ذلك في المركز؟ هل نسينا بهذه السرعة أن الهدف لم يكن هذا اللاتمركز الذي يتغنى به العثماني ولفتيت، بل كان سقف حلمنا لا يقلّ عن فتح منافذ جديدة للتنخيب والإشراك في ممارسة السلطة؟ ألم تكن الجهوية المتقدمة تعني تهييء جسم الدولة لاستيعاب فكرة الحكم الذاتي عبر ترويضها في «بروفا» أولية للتنازل عن جزء من صلاحياتها لهيئات منتخبة ونابعة مباشرة من الإرادة الشعبية؟ ألم نحاول استيعاب التطلعات التنموية المحلية التي كنا نراها آتية من الشمال والشرق والوسط منذ ذلك الحين عبر الجهوية؟

نعم، يحقّ لوزارة الداخلية وحدها أن تحتفي بالجهوية المفترى عليها، بما أن «الجهاز العصبي» للدولة نجح في احتواء وتطويع هذا المشروع الإصلاحي الكبير. فهذا العقل لم ينجح فقط في فرملة السرعة التي كان يفترض أن يتقدم بها هذا الإصلاح، ولا في تضييق الفتحة التي تتدفق منها سلطات المركز نحو الجهات؛ بل إن عبقرية الالتفاف تمكّنت من تسخير فكرة الجهوية، التي راكمت قدرا كبيرا من الرسوخ في الأذهان، لهندسة عملية الاحتواء الكبرى التي جرت منذ 2011 لإفراغ العرض السياسي الديمقراطي الذي حمله خطاب 9 مارس 2011، من روحه، واسترجاع ما مُنح باليد اليمنى بواسطة اليد اليسرى.

حين نراجع النصوص القانونية والتنظيمية التي حفّت تنزيل الجهوية حتى الآن، نجد أننا انتهينا إلى وضع كل ما قدّر ذكاؤنا الجماعي البدء بنقله من سلطة «الرباط» إلى سلطات منتخبة ديمقراطيا على الصعيد الجهوي، بين أيدي الولاة.

فالإصلاح الذي كلف به الملك كلا من الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات ورئيس الحكومة، بشأن المجالس الجهوية للاستثمار، انتهى بتنصيب الولاة على رأس مجالسها الإدارية، بعدما «بشّر» العثماني بتحويلها إلى مؤسسات عمومية مستقلة. وآخر النصوص التنظيمية المطبقة لقانون المقالع الجديد، وضع مفاتيح هذه «الكنوز» بين أيدي الولاة، بعدما انطلق الإصلاح بوعد حكومي بإخراجهم من هذا المجال.

وبعدما وضع وزير الفلاحة، عزيز أخنوش، يده على صندوق التنمية القروية في الظروف المعروفة، وحوّله إلى حكومة موازية يقودها هو مركزيا والولاة جهويا، وتتحكّم في مشاريع تموّلها الجهات بما لا يقل عن مليار درهم عن كل جهة؛ جاء مرسوم اللاتمركز ليجعل الولاة على رأس المصالح الجهوية التابعة لجميع القطاعات الحكومية، استنادا إلى ظهير عتيق يعتبر العامل «بمثابة مندوب حكومة جلالتنا الشريفة في العمالة أو الإقليم الذي يمارس فيه مهامه».

أي أن ما تبقى من فتات السلطات بين يدي الحكومة، سينتقل إلى الولاة الذين لا يملك رئيس الحكومة، الآتي من صناديق الاقتراع، حتى سلطة الاجتماع بهم، وكفى الله الحالمين بالديمقراطية شرّ النضال.

يكفي أن نتذكّر كيف أن ورقة الجهوية وانتخاباتها ظلّت معلّقة أكثر من ثلاث سنوات دون أي مبرر قانوني، بين 2012 و2015. والنتيجة اليوم، بعد أربع سنوات من «الحبو»، هي مجالس جهوية موزعة بين من «طُرد» رئيسها كأي أجير غير مرسّم ولا عقد له، وبين من يشكو «البلوكاج»، ومن يتسوّل التمويلات التي يعلم جيّدا أنه لا يملك حتى أن يخطط لكيفية صرفها.

هناك من رؤساء وأعضاء مجالس الجهات الحالية من سيجد في هذا الرأي إجحافا في حقه. وهؤلاء لا بد من الاعتراف لهم بالجهد المقدّر ومحاولة الاجتهاد والإبداع في دائرة الأمر الواقع، لكنهم، مثل التلميذ المجتهد في المدرسة المتخلفة، نملك أن نربّت على أكتافهم ونشجّعهم على المواصلة، لكننا نشفق عليهم أيضا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

hajjaji منذ 4 سنوات

A revoir régionalisation

التالي