يونس مسكين يكتب: هموم إعلامية

20 يناير 2020 - 18:00

يتّسم مجال الصحافة والإعلام بخصوصيات تجعله أكثر حساسية وهشاشة أمام بعض الاختلالات الاقتصادية والتراجعات السياسية والمناخ الاجتماعي والثقافي العام في جميع دول العالم. وفي حالتنا المغربية، ودون أي انحياز أو ذاتية، يصبح من المشروع التساؤل حول ما إن كان الإعلام أكثر القطاعات تضررا من الانعكاسات السلبية للتحولات والتحديات الجديدة. ولمثل هذا التساؤل مبررات هذه بعضها:

يوم الثلاثاء الماضي، كنت من بين الصحافيين الذين حضروا ندوة هي الأولى التي تنظمها الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، منذ تعيين رئيستها ومديرها العام وأعضاء مجلسها الأعلى في دجنبر 2018. كانت فرصة قدّمت فيها رئيسة الهيئة، لطيفة أخرباش، حصيلتها الأولية، وكشفت أولى أوراشها التي ترى أنها ستترك بصمتها من خلالها. لكن في عمق حديث وتصريحات رئيسة حكماء الاتصال السمعي البصري، كانت تطلّ تلك الصورة القاتمة والمخيفة عن مشهد إعلامي يفترض أنه ينتمي في جزء منه إلى القطاع العمومي الذي تكفله الدولة وميزانيتها، ويعتبر بطبيعته المعتمدة على إنتاج الصوت والصورة، الأقدر على مواكبة العصر وتحدياته التكنولوجية. لكن الحقيقة أن «عصب الحرب» الإعلامية، الذي هو مال الإشهار، بات مصدر قلق كبير، حيث يجزم عضو المجلس الأعلى، الذي يعتبر واحدا من أكبر العارفين بسوق الإشهار في المغرب، علي البقالي الحسني، وهو يتحدث من موقع المؤسسة التي يفترض أنها تراقب وتقنّن هذا القطاع، بأن أحدا لا يعرف الحجم الحقيقي لسوق الإشهارات، وأن عمالقة الأنترنت يزحفون عليه على حساب المؤسسات الإعلامية المحلية، عمومية وخاصة. وحين أثار الصحافيون بعض الإشكالات التي يطرحها الإشهار في القنوات التلفزيونية العمومية، تحوّلت رئيسة الهيئة إلى محام لهذه القنوات، مقدمة دفوعات صادمة: «كيف نطالب قنوات تلفزيونية بتقديم الخدمة العمومية، فيما نتركها تحت رحمة سوق الإشهار؟ كثيرون لا يعرفون أن القناة الثانية، مثلا، لا تحصل من الدولة سوى على أقل من 5% من مواردها المالية.» لكن المراقب، الذي يطالع تقارير المجلس الأعلى للحسابات حول تدبير القطب العمومي، يجد نفسه في مأزق العاجز عن مطالبة الدولة بوضع يدها في جيوب المواطنين لتمويل إعلام يعتبر خط الدفاع الأول عن السيادة والتماسك الوطنيين، بسبب ما تعرفه هذه المؤسسات من ضعف في الحكامة واختلال في التدبير. والنتيجة أن الصحافي في هذا الإعلام المرئي والمسموع بات تحت تهديدات اقتصادية وضغوط سياسية لا قبل له بها.

في يوم الأربعاء الموالي، حضرت ندوة نظمتها جمعية خريجي المعهد العالي للإعلام والاتصال، بمقر هذا الأخير بالرباط. وجوه متنوعة من الإعلام العمومي والخاص، الوطني والدولي، اعتلوا منصة الحديث عن «السلطة الرابعة في ظل رهان الرقمنة». هنا برز وجه آخر من وجوه المحنة التي تعيشها الصحافة والصحافيون. الثورة الرقمية جعلت المجتمع المغربي يصاب بتخمة مفاجئة، دون أن تكون له ثقافة استهلاك صحية ومتوازنة، والصحافيون المهنيون باتوا كائنات غريبة في مجالهم بعد الدخول العشوائي لفاعلين جدد بفضل التطور التكنولوجي، بل إن الوضع أصبح يحتّم طرح سؤال: من هو الصحافي أصلا؟ والرأي العام المغربي بات تحت تأثير خطاب إعلامي وافد من الخارج لا يراعي بالضرورة المصالح الوطنية، بقدر ما يخدم أجندة الواقفين وراءه، والممارسة الإعلامية باتت تعيش فوضى عارمة. وبغض النظر عن وجود السلط الثلاث التقليدية، فإن الإعلام المغربي عاجز عن تشكيل سلطة مضادة لأي من السلط الأخرى، بل إن «المجتمع في واد والصحافة ترقص بعيدا عن العرس»، يقول مصطفى الفكاك، المعروف بلقب «سوينكا»… في عمق هذا النقاش المتشائم، كانت تطل فكرة مركزية، مفادها مسؤولية الفاعل الرسمي وصاحب القرار في ما يجري، حيث كاد المتدخلون يجمعون على استحضار لقاء احتضنه المدرّج نفسه قبل نحو ثماني سنوات، نظمته وزارة الاتصال، وأطلقت من خلاله موجة تفريخ المواقع الإخبارية دون ضوابط ولا تقنين.

في يوم الخميس الموالي، كانت أصوات الجدل ترتفع حول مادة نشرتها الزميلة «الصباح» بقلم الصحافية نورا الفواري، حول ما شاهدته من طقوس للسهر والترفيه في أماكن خاصة بمدينة الداخلة في أقصى جنوب المغرب. المادة في حد ذاتها يؤخذ منها ويردّ، كأي عمل بشري يمكن أن يعجب البعض ولا يعجب البعض الآخر، كما يمكن أن يناقشه أهل الحرفة وحكماؤها من الناحيتين المهنية والأخلاقية. هذه أمور كلها صحية في صحافة مكتوبة يتفرّج عليها الجميع وهي تحتضر ببطء. لكن الصدمة يومها كانت صدور بيان للنقابة الوطنية للصحافة المغربية حول الموضوع، بدايته تثير البهجة، حيث يخبر بأن الهيئة التي تمثل الصحافيين تابعت «بقلق» تداعيات هذا المقال، حيث تعتقد للوهلة الأولى أن النقابة ستلتقط الفرصة لتفتح النقاش حول حرية التعبير التي يتكالب عليها الجميع، أو ستدعو باقي المعنيين بالموضوع إلى النقاش الهادئ والنظر إلى الأمر بموضوعية ودون حزازات شخصية أو مناطقية… المفاجأة أن النقابة تحوّلت إلى مغرّق للصحافية كاتبة المقال، مصدرة أحكاما جازمة حول المستوى المهني للمقال، وتفتّش، كأي فرقة لضباط الشرطة، بين كلماته عن إدانة الصحافية. كان بإمكان النقابة أن تستثمر النقاش الدائر في الضغط على المجلس الوطني للصحافة كي يعجّل بتفعيل صلاحياته، وإنشاء هيئاته الخاصة بفض مثل هذه النزاعات، والنظر في مدى احترام المقال لأخلاقيات المهنة، لكن سبق السيف العذل.

جميع «الأفخاذ» المتفرّعة عن قبيلة الصحافيين، إذن، تواجه عواصف التضييق الاقتصادي، المقصود منه والعفوي، ومحاولات قص أجنحة الحرية، سواء من جانب السلطة أو مركز النفوذ، في الصحافة الخاصة كما في الإعلام العمومي، والمشهد الإلكتروني انفتح، فلم يجد مهنيين قادرين على دخوله، فخالطهم فيه بعض المتطفّلين، وكثير من المدفوعين لإشعال حرب التشهير والتضليل. فلك لله أيها المواطن.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي