عادل بن حمزة يكتب: العجز التجاري والعجز الثقافي!

20 يناير 2020 - 16:54

في كتابه “الأبطال” قال الأديب الإنجليزي طوماس كارليل: “لو خُيرنا نحن الإنجليز بين الهند و شكسبير، لاخترنا- إلا من بعض التجار- شكسبير على الهند..”، هذه المقولة تصلح لتوصيف ما أقدمت عليه وزارة التجارة المغربية عند لقاء وزير القطاع بنظيرته التركية .

بخصوص الملاحظات التي أبداها المغرب حول بعض بنود اتفاقية التبادل الحر التي تجمع البلدين، والتي يرى المغرب أنها غير منصفة وتساهم في تعميق عجز المبادلات التجارية مع أنقرة، إلى هنا الأمر طبيعي ومقبول وجاري به العمل، بل ومطلوب لحماية تنافسية الاقتصاد الوطني، فالولايات المتحدة والصين قامتا، أيضا، بمراجعة الاتفاقيات التجارية التي تجمع بينهما والتي اعتبرها ترامب تخدم فقط، مصالح بكين، وذلك بعد مفاوضات شاقة.

الغريب في لقاء وزيري التجارة المغربي ونظيرته التركية، هو لافتة علت رأسيهما، ففي الوقت الذي ظهرت اللغة التركية واضحة ومنسجمة مع ذلك النشاط الرسمي، في مقابل ذلك، فإن ما يتعلق بالجانب المغربي كتب باللغة الفرنسية، علما أن دستور البلاد يتحدث عن لغتين رسميتين هما العربية والأمازيغية… هنا يطرح السؤال عن سريالية التواصل التي يقوم بها بعض المسؤولين بشكل يمثل إهانة للهوية الوطنية بشكل لا داعي ولا مبرر له، لقد تحول اللقاء من مرافعة ضد العجز التجاري مع تركيا، إلى تكريس للعجز الثقافي والهوياتي في العلاقة مع فرنسا.. في مشهد غريب لا يمكن تصوره في أي دولة في العالم يحترم المسؤلون فيها دستور وهوية البلاد.

الأمر بالطبع ليس موقفا رافضا للغة الفرنسية ولا أي لغة أخرى في العالم، لكن أن تُهان العربية والأمازيغية ومعهما إهانة دستور البلاد، فهذه سُبّة لا تغتفر قد تحتاج دوافعها إلى تحليل نفسي أكثر من أي شيء آخر…، ومادام بعض المسؤولين لدينا متعلقين بشكل مرضي بـ”خالتي فرنسا”، يجدر بنا تذكيرهم بالمعركة التي أطلقتها باريس مع بداية جولة الأورغواي التي ستنتهي بالتوقيع على اتفاقية “الغات”، والتي ستفتح التجارة العالمية على مصراعيها في إطار العولمة، حول ما سمّته بالاستثناء الثقافي، وذلك في مواجهة الآلة الضخمة لهوليود وغيرها من المؤسسات الأمريكية التي تنتج محتوى ثقافي، لقد كانت فرنسا واضحة في دفاعها عن الفرنسية لغة وثقافة ونمط عيش، وهي على حق بلا شك، لكن ذلك مع الأسف لا يغري ولا يوحي لملتبسي الهوية عندنا أن يتصرفوا على شاكلتها…

الاستثناء الثقافي الفرنسي ليس فقط، مجرد تعبير عن نرجسية مفرطة لدى الفرنسيين، بل هو واحد من الواجهات الاقتصادية المهمة لباريس، يكفي التذكير بما كان قد تضمنه سنة 2011 تقرير لوزارتي الثقافة والاقتصاد، حيث كشف بأن عائدات القطاع الثقافي تساوي سبع مرات مداخيل صناعة السيارات، فقد حدد التقرير عائدات الإنتاج الثقافي، وذو الطبيعة الثقافية، فيما يقارب 58 مليار يورو، أي ما يعادل 3.2 في المائة من القيمة المضافة الفرنسية في تلك السنة. وللوقوف على أهمية تلك العائدات يكفي التذكير أنه في السنة عينها شكلت تلك المداخيل ضعف عائدات قطاع الاتصالات، وسبع مرات مداخيل صناعة السيارات وتوشك أن تعادل عائدات القطاع الزراعي، هذا هو الاستثناء الثقافي الذي تدافع عنه فرنسا، بينما هنا والآن، يعجز وزير وفريق عمله عن النجاح في لحظة تواصلي عادية…

إبان الحرب العالمية الثانية وعندما كانت ستالينغراد تشهد واحدة من أسوأ المعارك وأكثرها دموية بين الجيش السادس الألماني والجيش السوفياتي، برز “ستالين” وهو ينادي، من خلال المذياع الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، صائحاً: “دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي”… ، فحتى هذا القائد الدموي في لحظة حرب قاتلة، لم يغب عنه الحس الثقافي والهوياتي وأهميتهما في حشد هِمم السوفيات من مدنيين وعسكريين. إن العجز الثقافي هو مقدمة للعجز التجاري، سواء مع تركيا أو غيرها…

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي