مصطفى بن الرضي يكتب: تسليع و"تسليح" النقاش العام!

21 يوليو 2020 - 23:55

بلا لفّ ولا دوران، ولستُ في واردِ المبالغة أو التجنّي إذا قلت إن الزمن الإعلامي الذي نعيشه يتّسم بالهبوط وسيادة الرداءة (إلا من اسْتَمسك بأخلاقيات المهنة)، بل ومكافأة الرداءة على العمل الذي تقوم به، مقابل حالة شدّ ومواجهة للجديّة والجودة في الصحافة، وفي غيرها، بما يؤدي، على المدى القريب والبعيد، إلى مستوى خطيرٍ من الانفلات في تدبير الخلافات المشروعة تحت سقف الوطنية.

سألني جاري، الذي لا يتوقف عن الطواف على المواقع الإخبارية، عن رأيي كصحافي في عنوان قرأه وأثار فضوله، واستغرابه.

ورغم سابق الإنذار، تقع عيناك على العنوان التالي في موقع يسأل، بكل قبح: “هل كان الصحافي (..) مدمنا على الأفلام الإباحية؟” (هكذا !!!). يقفُ المرء مشدوها لفداحة ما يقرأ، وعلى أكثر من وجهٍ. ويسأل: “هل هذا صحافةٌ حقا؟”.

يقسو عليك السائلُ وينكأ الجرح، وينتظر منك ردّا. لا تلوي على جواب، ولا تقدر على الحسم. تراوغ وتعوّم الموقف بإطلاق الكثير من الكلام والحذلقة، لأنك تجد صعوبةً (مهنية على الأقل) في التبرؤ من هؤلاء، ولا تستطيع نظريا أن تحسم بأنهم ليسوا صحافة. تتنازل وتقبل بأنصاف الأجوبة وتقول إنه نوع من الصحافة لا يلقى قبولا من المهنيين أنفسهم، وأن الأغلبية تتبرّم منه. لكنها تبقى صحافة وموجودة على كل حال، وفي الجوهر تعبّر عن أعطاب السياسة والحكم ابتداء، ثم تعبّر عن انحرافات مجتمعية (وللمفارقة تصنع أيضا انحرافات مجتمعية).

ثم تقرّ، صاغرا هذه المرة لأنه “لاَ بدّ مما ليس منه بُدٌّ”، أن أغلب الصحافة رديفُ المصلحة يدور معها حيثما دارت، جرْيا على عادة فقهاء قالوا: (الله يْنصرْ من صْبح). وهذا يعني أنها ليست بريئة تماما، وأنها في الأغلب خادمةُ من يتحكم فيها، وبمختلف أنواع التحكّم، الناعم والخشن.

لكنك، في المقابل، تتشبث (بكل حسن نية) بأن الصحافة أخلاق. بل تستذكر جيدا مراجعاتِك لأخلاقياتها بكل تحييناتها وما تقتضيه، لأنها من “المعلوم من الصحافة بالضرورة”.

لقد انحدرت الممارسة الصحفية في كثير من منصات النشر إلى مستويات بالغة السوء، بما يؤسّس لقواعد جديدة سيكون من ينفخُ في كِيرها اليوم من ضحاياها غدا. (والكِيرُ آلة من جلد أو نحوه يستخدمها الحدَّاد وغيرُهُ للنفخ في النار لإذكائها).

ثم تنتقل إلى مستوى آخر من السؤال: هل هذا النوع من الصحافة يعبّر عن النظام السياسي؟ مرة أخرى تنتصب أمامك الشواهد والقرائن، لتنتهي إلى أن ارتباطات مؤسسيها، و”الحماية” التي تتمتع بها، والأجندة التي تخدمها، من خلال المصرّح وغير المصرّح به، قد تكون صادرة عن جزء من الدولة أو تتقاطع مع مصالحه. وأستعمل (قد) و(جزءا) تفاديا لتعميم كان دوما معيبا شكلا ومضمونا، ولإيماني بأن من قال “هلَكَ الناسُ (كل الناس) فهو أهلَكُهم”.

من المقبول أن توجد السلطة (أيةُ سلطة) لنفسها أدوات “حمايةٍ” وتدافعٍ، في إطار ديمقراطية تقبل المشاكسة والمناكفة، وتنظّم إدارة الصراع عبر قنوات مشروعة، منها الصحافة، مع من تعتبرهم “أعداءها”، حقيقيين كانوا أو متوهّمين. لكنك تفهم أن الإعلام يندرج من ضمن وسائل الصراع الناعمة، قبل أن تستدرك على نفسك بأنه كلما قلّ منسوب الديمقراطية تحوّلت هذه الأدوات إلى أذرعِ صراع خشنةٍ، لا تتورع عن السعي للنيل من “الأعداء” بكل الوسائل (وباء الميكيافيلية).

إننا حقا أمام مشهد “عنف”، بل الخطير الإيمان بهذا المسلك والذهاب فيه، قبل الانتقال إلى مستوى أخطر بالعمل على نشره متلازما مع الرداءة، وقد يستوي غدا ظاهرةً تغذي نفسها بأسباب تجذّرها، عبر سلوكٍ عامٍ طبّع مع العنف، وحاضنةٍ “رسمية” بامتدادات مجتمعية، وحينها لن تعود بحاجة لـ”عوامل دفع” للاستدامة، لأنها ستكون قد ولّدت العدوانية أسلوبا في تدبير الخلافات.

هنا تتوقف مليّا لتدرك أننا أمام حالة جموح مستغربة ومستنكرة، وبصدد نقل الخلافات إلى مستويات غير مقبولة، تروم تحقيق أكبر قدر من الإيذاء بتوظيفٍ سيئ لـ”سلاح الصحافة” لضرب الصحافة نفسها. وأيضا هي حالة جموح غير مبررة، مادمنا لا نرى أي مؤشرات على أن الدولةَ المغربية “دولةٌ رخوة” حتى تستغرق في حالة الانفعال، والتي قد ترتدّ نتائجها غدا على رعاتِها إذا ما أنتجت ردود أفعال من ضحايا اليوم على قاعدة “جهلٌ فوق جهل الجاهلينا”، وفي ظل تطبيعٍ مجتمعي مع العنف “سائرٍ في طريق النمو”.

ما يجري أشبه بلعبة تقبل بعض أطرافها تدمير “التعاقدات الضمنية” دون أن يكون أحدٌ مستعدا للتصريح بذلك، لإدراك الجميع أنهم بإزاء التأسيس لمرحلة تحطيم القواعد الضرورية لقيام دولة الحريات، والتأسيس أيضا لمرحلة تسليع و”تسليح” النقاش العام.

لعبٌ بالنار ممن يتوهم أنه قادرٌ على الضبط على طول الخط. (مكرُ التاريخ؟).

ولن تتراخى اليد عن القلمِ للكتابة لمن يجب أن تُكتب له هذه الكلمة، وبنزاهة تامة: “إن الانحطاط والرداءة أسهل من مُكابدة الترفّع والجديّة. والعدوانية سكين حادّ من جهتين، يمكن أن يؤذي حامِله أيضا. وبناء الأوطان طريق مكابدةٍ لا استسهال”.

المصلحة تقتضي وقف هذا العبث والهبوط. ففي مرحلة ما من السقوط المجنون، وبالسرعة التي نتجه بها إلى القاع، لن يعود بإمكان أحد تخفيف السرعة أو الفرملة. وهنا نخاطب بقيّة عقلٍ وحكمة، حتى لا نصل جميعا إلى “ما بعد خراب مالطا”.

وفي الأخير، أهنئ الزميل حميد المهداوي على الإفراج عنه بعدما قضى في السجن سنوات إثر محاكمة عبثية لم تكن ضرورية وبأي مقياس، وهي نموذج للانفعال وحالة الجموح.

 

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي