القادمون مع "مورا" في اتجاه "لانس" أو "فورباش".. ملحمة منجميين مغاربة

15 أغسطس 2020 - 14:00

خصصت اليومية الباريسية “لوموند”، في أحد أعدادها موضوعا يلقي الضوء على الجيل الأول من المغاربة الذين التحقوا بفرنسا للعمل في المناجم أوائل الستينات. كما توقف المقال عند الدور المحوري الذي كان يقوم به فليكس مورا المعروف في جنوب المغرب آنذاك، باعتباره وسيطا للشركات المنجمية.

إضافة إلى ذلك كشف المقال عن حجم المعانات والصعوبات من خلال شهادات صادمة على لسان مجموعة من المنجميين، متمثلة في صعوبات الاندماج والميز العنصري والاستغلال الفاحش. هذا، وبالرغم مما قيل وكُتب، تبقى ملحمة هؤلاء المغاربة لم تروَ إلا قليلا، إذ هناك تفاصيل كثيرة ومعانات لم يكشف عنها بعد..

لن يعود ميناء الدار البيضاء بعد مدة إلا ذكرى في الأفق. السفينة “ليوطي” اتخذت طريقها في البحر عبر مضيق جبل طارق نحو رصيف “لاجولييت” في “مارسيليا” بسرعة عالية؛ 22 عقدة. قمرات واسعة تتوفر على التهوية، وغرفة للتدخين، و”وجبات فاخرة، وموظفين في “الخدمة تحت التصرف بالكامل”؛ فشركة “باكيت” تعرف جيدا كيف تحتفي بمسافري الدرجة الأولى في باخرتها: «منذ بدء الإبحار تبدأ ظروف استرخائك: تترك على اليابسة جميع همومك الأرضية؛ لتنعم بكامل الهدوء والراحة حتى تصل مرتاحا، وفي أحسن حال؛ حتى دون أن تشعر بمرورك من مناخ إلى آخر». إنها الدرجة المخصصة لـ”فليكس مورا”: هذا الرجل القصير القامة والسمين؛ المكلف بجذب اليد العاملة لمناجم الفحم في الشمال الفرنسي وفي منطقة “اللورين”، والذي قام بنفسه، وفي القرى؛ بانتقاء هؤلاء المغاربة القادمين من الأطلس الكبير، والذين جرى شحنهم إلى الدار البيضاء. أما بالنسبة إلى هؤلاء الشباب المجندين؛ فقد خصص لهم مدراء المناجم الدرجة الأخيرة؛ الخامسة، الأقرب إلى سطح الماء. الفلاحون والرعاة الذين هم في طريقهم إلى مناجم الفحم يكتشفون البحر من أعماقه، من خلال أحشائه ووجهه المظلم. وبعد أيام قليلة سوف يتعرفون على فرنسا من خلال معارضها.

لا أحد منهم يفكر ولو للحظة في أن يعيش بقية حياته في بلد آخر غير المغرب؛ عبدالله الصمات، الذي لم يكن قد بلغ بعد الثامنة عشرة في سنة 1963 حين ركوبه البحر للعمل منجميا في حفرة “باروس باكنروت” في منطقة “با دو كالي”؛ يقول موضحا: «الفكرة كانت لدى الجميع هي العودة بعد سنتين أو ثلاث سنوات بعد جني بعض المال».  ففي بداية سنة 1963، وإبان إضراب كبير نظمته نقابة الـ”السي. جي. تي.” دخل عمال المناجم المغاربة الأولون إلى قرية هذا الحوض المنجمي. يروي عبدالله الصمات: «كانوا يعودون من فرنسا يرتدون ثيابا حسنة». هذه الملابس التي كانت تبدو جميلة؛ كانت في الحقيقة تخفي قساوة العمل الشاق وأحزان المنفى؛ وهو الوجه الكلاسيكي المعروف للهجرة. ويتابع السيد الصمات: «هذا كان يثير فينا رغبة مغرية؛ كنا نريد أن نغادر مثلهم حتى نعود ونرد لآبائنا ما نستطيع، ونشتري لهم أشياء جميلة».

قبل مغادرة السفينة جرى تنظيم جلسة من طرف موظفي شركات المناجم بهدف تعريف هؤلاء المجندين على العمل في الحوض المنجمي، بالآبار، وبمدن الشمال، وبمنطقة لورين، وبالمساكن التي سوف يقيمون فيها… وذلك من خلال صور مصحوبة بتعاليق باللغة العربية؛ الصور قفزت على حادثة عمال المناجم المغاربة الأربعة الذين فُقدوا خلال انهيار أرضي في “هولاش” بالقرب من مدينة “لانس” في يونيو 1962. غير أنها تبقى مع ذلك صورا مقلقة بعض الشيء. يحكي إبراهيم كوثر، البالغ من العمر 67 سنة، بعيون يقظة من تحت قبعته الفرنسية قائلا: «اثنان من مجموعتنا تملكهما الخوف وهما يشاهدان تلك الصور وعادا أدراجهما إلى القرية».

«رحلة مَرَّاتي الأُولى»

ترك الراحلون على سفينة “ليوطي” الأكثر شبابا وراءهم أمهات تبكين. لحسن تيغانيمين، الذي كان حينها في سن السادسة عشرة؛ يقول متنهدا وهو في صالونه المغربي بـ”مونت-لافيل” في منطقة “إليليفلين”: «لقد كانت تلك رحلة مرَّاتي الأولى: المرة الأولى التي أرى فيها باخرة، والمرة الأولى التي أبتعد فيها عن عائلتي…». في القرية تترنم الخطيبات والزوجات بأشعار محلية يسمونها “تيمنادين” أي المناداة؛ التي تقول إحداها: «أخذت السفينة تمخر البحار، وحبيبي ضاع مني».  وتقول قصيدة أخرى مواسية: «لم يُخطئ من هاجر من أجل إنقاذ ذويه».

شيء ما في آلام الهجرة ومساراتها لا يمكن تفسيره للآخرين؛ ولحسن عيدالي، صاحب الـ 79 سنة قضى منها ست سنوات داخل بئر “ليبيركورت” في منطقة “با دو كالي”؛ ليس هو من يمكن أن يسهب في الحديث عن عبوره البحر في غشت 1963. يتذكر هذا المنجمي أن الرحلة استمرت «ثلاثة أيام». وأنهم كانوا قد سلموهم سترات النجاة. ابنته ناديا التي تعمل مندوبة صيدلانية في نفس منطقة “إليليفلين”؛ تقول مازحة: «يجب الحفر كثيرا؛ كما في داخل المنجم حتى يمكن انتزاع معلومات من والدي». يستحضر السيد عيدالي حكاية واحدة يرويها مع غير قليل من الورع والتواضع: قبل أن يصعد إلى داخل السفينة “ليوطي” اختلس بعض الوقت ليكتب إلى أمه التي تركها مريضة في “تاغوشت”: «لم يكن لدي طابع بريدي؛ فوضعت عشرين سنتيما داخل صندوق البريد مع الرسالة؛ ووصلت الرسالة بالفعل إلى تاغوشت…».

أما السيد “تيغانيمين”؛ الذي هو، كذلك، أحد قدماء الحوض المنجمي بـ”لانس” فيمتلك فن الحكي المرِح للروايات الأكثر إثارة. يقول: «كانت السفينة “ليوطي” ماكِنة كبيرة؛ ربما كنا عدة آلاف داخلها، أناس من سوس، وزنوج، أظن أنهم كانوا سنغاليين، كانوا يعملون عملا شاقا داخل المطابخ، لقد كانوا طيبين جدا؛ كنا جميعنا سواء؛ لكن كنا بعيدين عن أهالينا وذاهبين لكسب قوتنا». غالبا ما يكون البحر متقلبا في مضيق جبل طارق. يقول “تيغانيمين” كذلك: «البعض تملكهم الخوف، كانوا يقرؤون بعض الآيات من القرآن حتى يشعروا باستعادة الثقة، بعد مدة قصيرة لم أعد أتحمل رائحة القيء ورائحة السمك، فأصبحت أقضي يومي على سطح السفينة».

ويواصل السيد الصمات: «عندما نزلنا من السفينة في مرسيليا؛ كنا جميعنا متعبين ومرضى». أولى ذكرياته عن التراب الفرنسي يلخصها في قولة فاصلة: «عندما نزلنا إلى الرصيف كان على مجندي “فليكس مورا” الذين سيرسلون إلى “لانس” أو إلى “فورباش” أن يتجمعوا بعيدا جدا عن باقي المسافرين. لقد سمعت أحدهم يصيح: “لي موغا بار إيسي” (les mora par ici). لقد كان ينطق اسم “مورا” هكذا “موغا”؛ أي أصحاب “مورا” من هنا، وهو ما يدل على شهرة المكلف بالتجنيد لأصحاب شركات المناجم؛ وهكذا فالرجال المجندون من طرفه يرثون اسمه العائلي». يقول مثل أمازيغي: «إيوي موغا إيموغان»؛ أي «لقد ذهب “مورا” بالموغان». و”الموغان” هم أولئك العشرات والعشرات من آلاف الأولاد الذين كانوا يقفون في صفوف ينتظرون لساعات، في مدن وقرى الجنوب قدوم الإطار المرسل من طرف أصحاب شركات المناجم “فليكي مورا”؛ الذي سوف يمنحهم أو لا يمنحهم تذكرة إلى فرنسا.

في مرسيليا؛ كانت شركات المناجم قد استأجرت قطارا بمحطة “سان شارل” ليتجه إلى باريس. مثل هذه الرحلات سوف تصبح فيما بعد بالطائرة؛ ولكن في سنة 1963، كانت الحافلات تنتظر “الموغان” في محطة “ليون” بباريس؛ لتتجه بهم إلى “ليل”، و”لانس”، و”بيلي- مونتيني”… يقول عبدالله الصمات: «عند وصولنا أعطونا صحونا صغيرة تحتوي على وجبة الشعرية». لتنطلق بعدها سلسلة من الإجراءات المرهقة: فحص طبي (هو الرابع!)، تسليم حزمة متواضعة من الحاجيات المنزلية: طنجرة، وصحن، وسكين، وكأس… وكذلك، يضيف إبراهيم كوثر: «مجموعة من الملابس: «ثبان، ولباس داخلي، وقميص، وسروال، وحذاء، جوارب (تقاشر)، وبيجاما».

يروي السيد “تيغانمين”: «توقفت الحافلة التي كنت فيها أمام إحدى المدارس بمدينة “لانس”. كان هناك رجال ينتظروننا في الداخل وسط ساحة المدرسة؛ أحدهم كان جد طويل وعريض؛ قلت لرفقائي: «آي مشنك أيلا موغان نيرمين” (كم هو ضخم هذا الوحش الأبيض!». كان اسمه السيد “ديلكور”، علمت فيما بعد أنه كان قد عمل بالقرب من تزنيت؛ قال لنا بتشلحيت: «أهلا بأولاد البلد». وفسر لنا بأننا قد تركنا وراءنا في البلد عائلاتنا وأنه علينا ألا نخذلهم، وأن علينا أن نعمل بجد.

جرى توزيع الوافدين الجدد على مختلف “مجموعات العمل” التابعة لشركات المناجم: “لانس”، وكذلك “دووي”، و”فالانسيين” أو حتى “عين ليطار” (Henin-liétart) التي سوف تسمى فيما بعد “هينان-بومون” (Hénin­Beaumont)، المعقل السابق للشيوعيين ولـ”la SFIO” (La Section française de l’Internationale ouvrière) [الشُّعبة الفرنسية للأممية الدولية للعمال]؛ وهو حزب اشتراكي فرنسي كان موجودا من 1905 إلى 1969. وهذا المعقل اليساري السابق أصبح اليوم المعقل المحلي لحزب “مارين لوبين”. وكلمة عين؛ أي النبع تطلق غالبا على أسماء القرى الأمازيغية؛ وقد أعاد مغاربة المنطقة تسمية المدن والقرى الفرنسية بـ”عين” كلما وافقت في نطقها هذه الكلمة.

ظلت فِرق “مورا” ترافق المنجميين إلى منطقة “اللورين” وإلى”ميرلاباش” أو “فاريبيرسفيل”؛ وهما اسمان أكثر صعوبة في النطق بالنسبة إليهم. جرى توطينهم في مآو مخصصة؛ إذ جرى وضع على كل مأوى رئيس لتأطر هؤلاء، والرؤساء هؤلاء هم من رجال شركات المناجم؛ يحملون لوائح بأيديهم وينادون على المنجميين الجدد بأسمائهم؛ يروي إبراهيم كوثر: «سلمونا تسبيقا بـ 350 فرنكا من أجرتنا الأولى، ثم في حدود الساعة العاشرة انطلقنا لزيارة المدينة مثل أي سواح: المخبزة، مركز البريد…».

«كان الأمر أسوأ من الحرب»

في بيوتات المنجميين بال “با دو كالي”؛ يتم توجيه العزاب إلى أكواخ خشبية: كنا في مجموعتنا ستة رجال، حيث خصص لكل واحد منا فراش وصوان. أما البيوت المبنية في المنجم من اللَّبِن الأحمر فخصصت لأسر الـ”شتي”؛ (وهو لقب يطلق على سكان الشمال الفرنسي)، وللإيطاليين والبولونيين. اليد العاملة المغربية كانت كلها من العزاب، كانوا قد جرى تجنيدهم للعمل على أساس التوظيف المؤقت. وهي توجد هنا فقط، إلى حين النهاية المنتظرة للآبار؛ آخر هذه الآبار سوف يتم إغلاقه في سنة 1990. وهذا الوضع سبق أن لخصه يوما المدير السابق لتلك المناجم “موريس مانجيز” بالقول: «المغاربة يمكن التخلص منهم بسهولة عند إغلاق المناجم؛ ليس كمثل العمال المحليين».

جرى تعيين لحسن عيدالي ليلتحق بـ”أوانييس” بالقرب من “كالفان”؛ في البداية في معسكر هناك، ثم في الـ”28″؛ هكذا تكلم هذا المنجمي السابق الذي أصبح فيما بعد عاملا لدى “ستروين”. ويواصل قائلا: «لم يكونوا حينها يعطون أسماء لجميع الأزقة والشوارع؛ فقط أرقاما؛ المهم كانت قبالة الكنيسة، حيث إن القس عندما كان يغادر كان يترك المفاتيح عندنا!» ويأخذ عبدالله الصمات الكلمة ليقول مواصلا: «بالنسبة إلي؛ كنت في مجموعة “دوواي”، وقد أخذوني إلى معسكري رقم 7، بحي “فريسنوي”، “مونتينيي-أون- أوستر-فون”. لقد مر الآن أزيد من نصف قرن، وتم اجتثاث المعسكرات بالكامل واختفت الآبار (أو ما يطلق عليه عندنا في جرادة الساندريات)؛ وأصبح المكان مجموعة مضامير للطيران الشراعي، وحتى مسالك لرياضة التزحلق على الجليد؛ غير أن العناوين تستمر إلى الأبد محفورة في ذاكرة الـ”موغان” مثل توالي المواسم.

يقول السيد عيدالي متذكرا: «عندما وصلت لأول مرة في شهر أكتوبر من سنة 1963، كان هناك الثلج يتساقط، لم أكن قد شاهدت ثلجا في حياتي من قبل، كان الماء مجمدا في الصنابير، وكذلك البنزين في السيارات، ومن أجل التدفئة كنا نذهب لقطع الخشب». وفي “وينغليس” كان كوخ لحسن تيغانيمين على بعد كيلومترين أو ثلاثة من الحفرة التي يشتغل فيها في وسط الغابة بالقرب من بحيرة جرى تحويلها اليوم، إلى فضاء ترفيهي؛ وهو يتذكر: «في البداية؛ كنت أمشيها على قدمي؛ ثم بعد مدة اشتريت دراجة هوائية، ومع الثلج والصقيع المجمد كنت أسقط عدة مرات».

المكوث وجها لوجه أمام صفحة الفحم اللامعة، وحيدا في هذا الظلام الدامس، وفي بعض الأحيان تحت الأرض بأكثر من ألف متر، أمر يشبه مبارزة مع الجحيم. أول نزول للحسن تيغانيمين إلى قعر البئر كان مبرمجا له يوم 30 غشت 1963. يروي عن ذلك اليوم: «جاؤوا لأخذنا على الساعة الخامسة صباحا، تملَّكنا الخوف بشدة لدرجة أننا رفضنا النزول، كان الأمر أسوأ من الحرب! لم يُرغمونا؛ ولكنهم نادوا على السيد “ديلكورت”؛ الذي قال لنا بأننا هنا من أجل العمل، وبأن أسرنا في البلد تعول علينا… وبأننا رجال وعلينا أن نكون مسؤولين. ثم أعادونا إلى أكواخنا حتى نستعد بقوة أكثر للعودة في الغد».

“فيليكس مورا” ينزل بنفسه بانتظام إلى الحفر للتحقق من ظروف عمل مَنْجَمِييه. وقد احتفظ ابنه “مارك مورا” الذي استمر وفيا لمنطقته “با دو كالي” بالمصباح اليدوي لوالده، والذي لازال يحمل الرقم 3084، كما يحتفظ له بكتاب لـ”جوزيف بيي”، الذي كتبه في بداية سنوات الستينات، والذي يُبهِج من لازال لديهم الحنين لزمن جنود خيَّالة الـصبايحية والـﯖوم. ويضيف لحسن تيغانيمين، هذا الرجل الكتوم جدا في العادة: «ولقد ترك لنا أيضا قبعة، ومنديلا أزرق كنا نضع عليه ورقا مقوى جد صلب». وهذا كان هو سلف الخوذة، تماما مثل ما كان عليه الأمر في رواية “إميل زولا”.. لـ”جيرمينال”.

المسؤول عن اليد العاملة الأجنبية في شركات المناجم لم يكن يهتم فقط، بظروف العمل؛ فمجندوه – كما فسر هو ذلك للمجلة الجهوية “آفاق 59” في استجواب معه سنة 1988- «كانوا من الجهل لدرجة أن دوري كان بالأساس اجتماعيا. تصوروا أنني كنت مضطرا للسهر على كل شيء، السكن بطبيعة الحال، وكذلك تغذيتهم؛ إذ إن هؤلاء القوم كانوا يريدون الادخار أكثر ما يمكن، وبالتالي، لم يكونوا يتغذون بما يكفي». وهذا يوضح أفضل توضيح الغريزة الاستعمارية وعقلية الوصاية لدى باطرونا المناجم في تلك الحقبة.

كان “مورا” يستقبل في مكاتبه الفخمة والمؤثثة بشكل فاخر بـ”نوييل- سو-لانس”؛ وداديات مغاربة المنطقة التي كانت تحظى برعاية من قنصل المغرب، والذي كان هو، كذلك، ضيفا منتظما، وفي الوقت نفسه كان “مورا” ينطلق في جولات تفتيش في بيوتات المنجميين، يدفع أبواب الأكواخ ويبدي قلقه وانشغاله على مجنديه؛ يقول في الاستجواب نفسه مع “آفاق 59”: «إذا ما حدثت وفاة؛ كنت أنا الذي أتولى الأمر؛ أتكفل بترحيل الجثمان، وبالإرث، وأهتم بحالات الزواج، والمواريث؛ كل شيء كان يمر على يدي؛ كنت أتكفل بإرسال مدخراتهم في حوالات إلى أهاليهم، لم يكونوا يعرفون شيئا، ولا يعرفون أحدا غيري».

كانت الأجور تُصرف كل خمسة عشر يوما نقدا سائلا؛ كما يؤكد لحسن تيغانيمين: «كان المبلغ هو 250 فرنكا، السكن والفحم كانا بالمجان». جزء من الأجر كان يتم إرساله إلى القرية؛ تلك الحوالة الشهيرة التي كانت تنتظرها الأسر التي مكثت في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وجزء آخر يتم ادخاره، بينما يغطي الباقي المصاريف اليومية. «كنا نذهب لاقتناء مستلزماتنا من عند البقال الذي كان يدون أثمنة المشتريات في دفتر، وكل خمسة عشر يوما كنا نذهب إليه لأداء ما علينا». في الحوض المنجمي “اللوريني”؛ كانت هناك حافلة صغيرة تابعة لـ “سامير”، تعاونية شركات المناجم، تقوم بدورات على المآوي والمنازل؛ تعرض الخبز، والحليب، والخضر، والفواكه.

كان التسوق هو الفرصة الوحيدة للخروج كل أسبوع؛ بما أن الأكواخ كانت أقرب إلى الآبار منها إلى وسط المدينة. كان يوم الأحد هو يوم العطلة الوحيد في الأسبوع؛ – إذ كان يمكن العمل حتى يوم السبت- وكان في الإمكان يوم الأحد ممارسة كرة القدم، أو لعب الورق، أو الدومينو.

كان المنجميون المغاربة يذهبون من مأواهم إلى المنجم ومن المنجم إلى البئر، وعند ناهية كل عقد عمل من اثني عشر أو ثمانية عشر شهرا؛ من المأوى إلى المطار، ومن المطار إلى القرية، أو العكس: إنه مسلك معتاد، ومُعَلَّمٌ، ومغلق. وعندما كانت شركات المناجم تقترح عرضا سينمائيا في قاعة “بريطانيا هلان” (Prytania d’Halluin) بالقرب من مدينة “ليل”، كما يذكر السيد تيغانيمين: «كانت الأفلام بالدارجة المصرية». وهي دارجة عربية كان هؤلاء الأمازيغ يفهمونها بالكاد.

محو الأمية والعمل النقابي

يقول لحسن عيدالي: «كنا نسكن مع المغاربة، ونعمل مع المغاربة، كنا دائما مع المغاربة».وقد قام ابنه المهندس فيمجال الطيران بتهيئة ملف لتقاعده (مع 185 أورو شهريا عن السنوات الست التي قضاها في الحفرة)، كما يساعده عند الحديث في العثور على الكلمات المعبرة؛ فنصف القرن الذي أمضاه على التراب الفرنسي لم يجعل حديثه بالفرنسية أقل تلعثما. فشركات المناجم لم تقدم لهم دروسا في محو الأمية إلا في الآخر. يقول عبد الله الصمات: «لم تكن تلك الدروس في الحقيقة إلا من أجل أن نتعلم المصطلحات التقنية ولغة المناجم، حتى لا نرتكب حوادث. وإلا فإنهم لم يكونوا في الحقيقة يريدوننا أن نتعلم الفرنسية». والوحيدون الذين يتقنونها هم أولئك الذين انضموا مثله إلى نقابة الـ”سي.جي. تي”.

ولقد ناضل عبدالله الصمات وهو على رأس جمعية المنجميين المغاربة في شمال “با- دو- كالي” (AMMN) إلى أن أدخل القضية إلى محكمة النقض من أجل أن يتمكن هؤلاء المنجميون من تحويل الامتيازات الممنوحة (سكن وتدفئة) إلى رأسمال عيني؛ وهو الأمر الذي كانت الشركات ترفضه لهم، فتمكن من استصدار حكم على هذه الشركات بسبب “التمييز العنصري”. وكان قد انخرط في نضاله عمليا على إثر حادث خطير؛ ففي سنة 1967؛ وهو في عمق حفرة “بارواس”، كان أنبوب آلة تعمل على مباشرة الفحم قد مزق قدمه إلى أشلاء؛ يروي عن ذلك الحادث قائلا: «كنت أرى كاحلًيَّ يتدلَّيان مثل جذور جرى انتزاعها من شجرة». وقد جرى إدخاله إلى مركز تابع للشركة من أجل حصص الترويض. وصنعوا له حذاء طبيا؛ وأُرغِم على العودة إلى البئر رغم إعاقته ورغم احتجاجاته. فقادته تلك السنتان من المعاناة إلى العمل النقابي؛ يقول عن ذلك: «هناك فقط بدأت أتكلم وأدافع عن الآخرين كذلك».

وقد عرفت سنة 1969 تلك؛ عمليات استقطاب للعمل النقابي على قدم وساق؛ ولم يتم إلا بعد ذلك بخمس سنوات، وبعد صدمة البترول الأولى أن أوقف الرئيس الفرنسي الجديد “فالري جيسكار ديستان” التهجير من أجل العمل. غير أن شركات المناجم جرى استثناؤها من هذا الإلغاء، واستمر هذا الاستثناء إلى سنة 1977 على الأقل؛ إذ استمر “فليكس مورا” في جلب المنجميين المغاربة خارج أي إطار قانوني. وفي سنة 1980 وإبان حراك من الإضرابات نشأ في منطقة “اللورين” وأشعل كل الحوض المنجمي في شمال فرنسا؛ حصل المغاربة أخيرا بصفة قانونية على وضع منجميين مثل الآخرين. وبذلك انتهى الزمن الذي كان يستطيع فيه “مورا” أن يجلب يدا عاملة مؤقتة وبدون تصريح حسب حاجة شركات المناجم.

وفي فبراير من سنة 1988 حلت ساعة التقاعد؛ وكما تشهد على ذلك وثائق أرشيف مناجم الـ”با دو كالي”؛ فإن إدارة شركات المناجم قامت – مزهوة بـ”شبكات علائقها الاستثنائية”- بتكليف “فليكس مورا” بمهمة إعادة الإدماج المهني للمنجميين المغاربة في المغرب. يقول “أونطون بيردونونسان”، عالم الاجتماع والأستاذ في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس “L’École des hautes études en sciences sociales” (EHESS) ، موضحا عن “فليكس مورا”: «لم يكن الرجل مجرد مُنَقِّب عن العمال المغاربة بهدف استنزاف المناجم قبل إغلاقها تماما: هجرة، ثم الركود في إنتاج الفحم بشمال الـ”با دو كالي”؛ بل إنه تحول، كذلك، إلى مدبر في فرنسا لليد العاملة التي جلبها ووظفها، ثم بعد ذلك سوف يرافقها خلال سنوات الثمانينات في المغرب». وذلك بفضل مساعدات في حال العودة. ويقدر مع ذلك المتخصص المغربي في قضايا الهجرة محمد الشارف أن: «%60 من المغاربة فضلوا البقاء في فرنسا».

في سنة 1976 كان حمو شكوك يزرع الطماطم في تافروغت ويجني الثمور من نخيل تافروغت، قريته على أبواب الصحراء. وهو اليوم يعرض على سوق “فورباش” خضراوات حديقته الصغيرة؛ وهي قطعة أرض تطل على مدينة “باهرينليس-فورباش”. يقول ابنه حسن مفتش الضرائب بستراسبورغ مبتسما: «في مساجد هذه الناحية، وفي كل طابق من مباني “باهرينليس” أو “فاريبيرسفيل”؛جميع القدماء جاؤوا مع “مورا”، ويسود هنا جو من السعادة؛ فهنا كما لو أنها قطعة من بلاد الأمازيغ في وسط منطقة “اللورين” الشديدة البرودة».

كل ما يتقاضاه هؤلاء المتقاعدون من معاش تستنزفه سفريات الذهاب والإياب ما بين بلدهم الجديد هذا؛ “لاموزيل”، والشمال، أو جهة باريس، وما بين البيت هناك في المغرب؛ وهذا ما يلخص تمزقهم؛ ذلك أنه خلف التاريخ المنسي لـ”الموغان” يمكن قراءة مسارات العديد من المهاجرين المغاربة ما بين سنوات الستينات والثمانينات من القرن العشرين، وكذلك يمكن قراءة الرسم البياني للهجرة في تلك الحقبة: هجرة من أجل العمل، ثم تجمع عائلي، ثم استقرار نهائي. إن ملحمة هؤلاء الشباب الصغار الذين قدموا وحيدين، لم تروَ إلا قليلا؛ هؤلاء الذين جاؤوا معتقدين أنهم سيعودون سريعا إلى البلاد وكلهم أمل، ثم التحقت بهم عائلاتهم، قبل أن يكون أولادهم وبناتهم الذين ازدادوا في فرنسا هم الذين سيمكنونهم من مصير فرنسي.

وبين الآباء والأبناء؛ غالبا ما تبرز حكايا الهجرة انطلاقا من تفاصيل صغيرة؛ فبالنسبة إلى حسن شكوك؛ ابن المهاجر حمو شكوك؛ فإن كل شيء انطلق من صورة صغيرة في خزانة “فورباش”؛ كان ذلك في أوائل سنوات الألفين؛ كان سنه حينها سبعة عشر أو ثمانية عشر سنة؛ يقول: «فتحت كتابا عن المنجميين في “موزيل”، واستقرت عيناي على صورة للإضرابات الشهيرة لسنة 1980 في “موزيل”. في وسط المتظاهرين كان هناك رجل رفعا ذراعيه»؛ انتابت حسن نوبة بكاء، ثم قال مواصلا حديثه: «هذه الصورة زلزلتني، أخرجت عنها نسخة طبق الأصل، ثم أظهرتها لإخوتي، وهنا بدأ والدي في الحديث؛ ليس كثيرا؛ غير أنه روى لنا حكاية النضال من أجل الحصول على وضعية منجمي قانونيا، وعن تفاصيل قدومه مع “مورا”».

*”آريان شومان” اليومية الباريسية “لوموند”، العدد 23472

ترجمة: إبراهيم الخشباني

زاوية محرمة من تاريخ فرنسا

على يدي السيد عيدالي عروق سوداء؛ إنها آثار؛ بل ندوب عار فحم الشمال الشهير. الأصبع الوسطى بيده اليمنى هي الأكثر إصابة، وبأضرار بليغة، تماما مثل وسطى السيد الصمات، أو السيد كوثر؛  ولكن بالنسبة إلى ابنته ناديا، فإن جرحا صغيرا في الجانب الأيسر من أنف والدها هو الذي دفع إلى هذا العود إلى حكايات الماضي؛ تقول ناديا: «في طفولتي؛ كنت الأقرب إلى والدي؛ عندما التحقنا به مع والدتي وإخوتي قادمين إلى “شارلفيل-ميزيير”؛ وبعدما انتهت حياته في المناجم؛ كنت دائما ما أجلس بجانه وأمشط شعر رأسه، وفي كل مرة كان يقول لي: تعالي يا ناديا نظفي لي هذا الشيء بالقرب من أنفي، وفي أحد الأيام سألته: ما هو هذا الشيء؟ فأجابني: إنها شظية أصابتني في المنجم. ثم أخذ يروي لي قصته. ظللت لمدة طويلة أعتقد أن “مورا” كلمة مختلقة، شيء ما غامض، أو أسطورة».

في داخل الدرج؛ هناك كل شيء: الأقبية، والسراديب… قبل موعدهم مع “لوموند”، أمضى أبناء الـ”موغان” ساعات في محاولة اقتفاء آثار “فليكس مورا” الذي جند آباءهم. كانت فوضى كبيرة داخل عُلَبِ الأحذية، وداخل الحقائب الكارتونية. يقول حسن شكوك: «والدي رجل أمي؛ ولهذا فقد احتفظ بكل الأوراق المكتوبة». وجدنا على الخصوص تواصيل الحوالات، و”كشوف الخدمة” و”إيصالات الأقساط”، وتواصيل كراء المرآب التي تدفع دائما إلى شركات المناجم، بالإضافة، كذلك، إلى العديد من الأرقام: الرقم المسَلَّم من أجل الصورة عند التجنيد في المغرب، أو عند الوصول إلى فرنسا، والرقم الممنوح عند الوصول إلى المأوى، ورقم المصباح اليدوي، ورقم الصفيحة المعدنية الخاصة بكل واحد؛ حيث يعلق كل منجمي حقيبته في غرفة تغيير الملابس…

قعر السفينة قرب الماسورة، وهذه الطوابع، وهذه الأرقام؛ كل هذا يحيل على مخيال معين، وعلى ممارسات العبودية. وهناك أغنية أمازيغية أوحت بها تلك الأحداث تقول ما معناه: «”مورا” أيها النخاس. اجعل ممن كلفته شركات المناجم رجلا “يبيع” عبيدا مغاربة…». وهذا يتفق مع ما يقوله عنه عالم الاجتماع “أونطون بيردونسان”: «إن تاريخ هذا الرجل مرتبط أكثر بالاستعمار؛ فـ”مورا” كان قبل 1956 عسكريا في خدمة الحماية الفرنسية، وبهذا فهو يحيل على إرسال العمال واستغلالهم في فرنسا». وعندما قررت مريم تيغانيمين؛ ابنة لحسن؛ ذلك الذي كان يتنقل على الدراجة في الثلوج أن تهتم بتاريخ أبويها؛ عثرت في الإنترنيت على الأغنية الشهيرة “النخاس”؛ وسألت والدها في غضب: هل هو ذلك الذي أتى به إلى فرنسا؟ فما كان منه إلا أن أجابها بسؤال آخر؛ هو عبارة عن رَدٍّ محرج ألقاه إليها بابتسامة: «ألستِ سعيدة بأنك الآن هنا؟». ولهذا فمريم تيغانيمين ترى أنه: «من فرط سعادته بحاضره لا يريد أن يحقد على من صنعوا ماضيه».

ويؤكد حسن شكوك أن: «”فليكس مورا” هو ماضي والده؛ كما أنه ماضي فرنسا كذلك؛ فهذا الرجل قد غير من وجه الجنوب المغربي، كما غير من وجه منطقة “لا موزيل”».

إن سياسة التوظيف لدى شركات المناجم قد قلبت مسار عشرات الآلاف من المغاربة، وغيرت من الحياة الاجتماعية المعاصرة للطبقات العمالية، وغيرت من ديموغرافية العديد من الجهات الفرنسية. ولكن تظل هناك زاوية مغلقة لم تُروَ قط من الحكي التاريخي الوطني لفرنسا. وللتذكير بهذا التاريخ الذي: «لايزال الكثير من أبناء المنجميين لا يعرفونه». ومن أجل مَلْإِ «ثغرات كتب التاريخ في المدارس»؛ فإن حسن شكوك يحتفظ عنده بـ«سجادة الصلاة لوالده عندما كان عازبا»، والبساط الأحمر الذي كان عنده حين وصوله إلى “فورباش” في مأوى “ستيرينغ-ويندل”؛ يقول: «إنه بساط صغير يحرك مشاعري»

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي