منير أبو المعالي يكتب: قضاة خجالى

10 سبتمبر 2020 - 18:00

حدث في 2014، أن هاجم بارون مخدرات مقر شرطة الفنيدق، مستعملا دجاجا مشويا رماه على الحراس الواقفين بالباب، كان يصرخ محتجا على غدر السلطات به كل مرة. قطع الدجاج تلك لخصت الرشاوى المستخدمة لإبقاء الشرطة بعيدا، لكن في بعض الأحيان، لا يهم كم تدفع. غادر البارون مقر الشرطة، وتسلل باستخدام جواز سفر مزور إلى سبتة كما يفعل باستمرار. بلغني ما حدث، فاتصلت برئيس المنطقة الأمنية هناك. كان يبدو لي شخصا يقظا، منيعا إزاء أعمال الفساد المنتشرة هناك. “سوف نقبض عليه لا محالة. يجب أن تتيقن من ذلك”، كما أخبرني عبر الهاتف. في الواقع، فإن البارون لم يلق عليه القبض أبدا منذ ذلك الحين، ولسوف تُستعمل صحيفة في وقت لاحق لنشر خبر توقيف البارون في إسبانيا. وكان ذلك الخبر بمثابة إغلاق للملف. في حقيقة الأمر، صدر ذلك الخبر في تلك الصحيفة في ذلك اليوم، بينما كان البارون يقضي أوقاته مستمتعا بحفل زفاف بنته، ولقد شاهدته بأم عيني. لا يهم.

بعد حوالي عامين، سأعرف كيف تجري الأمور هناك. لقد سقط رئيس المنطقة الأمنية المذكور آنفا في عملية لمكافحة المخدرات. كان واحدا من كتيبة كاملة لقوات شرطة تختص في ملاحقة منظمات المخدرات، ولسوف يتابع بتهمة المشاركة في الاتجار بالمخدرات، وهو الآن يقضي عقوبته في سجن نواحي الرباط.

الفساد قديم في سلك الشرطة، وليس هناك مدعاة للخجل منه، وإدارة الشرطة في البلاد عادة ما تنشر بشكل سنوي، تقريرها الغني بالمعلومات حول رجال الشرطة الذين تلاحقهم بسبب أعمالهم القذرة. لا يمكن بأي حال، التغاضي عن المجهود المبذول لتنظيف سلك الشرطة من أولئك الذين يعتقدون أن البذل الرسمية تطلق أيديهم لفعل ما يشاؤون. وفي الواقع، فإن الناس تشعر بأن لهذا الجهد أثر في تقويم السلوك الشرطي على الأرض.

وإذا كانت إدارة الشرطة لا تشعر بالحرج من مطاردة الفاسدين بين صفوف أعضائها، فإن قطاعات أخرى على ما يبدو، تحس بأن أي أعمال تنظيف داخلها، إنما هي شكل من أشكال العدوان. عادة، وهذه قاعدة عامة، يتصاعد فساد رجال الشرطة كلما قلت نزاهة القضاة. بعبارة أدق: في غالب الأحوال، فإن رجال الشرطة والقضاة مثل مكابس محرك السيارة، متوالية هندسية مرتبطة بعلبة تروس تدفعك للمضي قدما، أو للسير إلى الخلف. ما لم يشعر الشرطي بأن قاضيا يدور على الشكل نفسه، فإنه لا يتشجع لأعمال الفساد. يُخلى سبيل بارونات المخدرات، أو تخفض عقوباتهم، دون أن يلقى أي بال لأعمال الشرطة في ملاحقتهم. يمكن سرد قائمة طويلة من الأمثلة على ذلك. لكن لا فائدة من مواصلة التذكير بذلك على ما يبدو. يمثل ضياع ذلك المجهود الشرطي دافعا مشجعا للتخاذل والتواطؤ مستقبلا، ثم تتشكل شبكات متلاحمة من سلك إلى سلك.

ظهر ذلك في قصة عضو بالنيابة العامة في الدار البيضاء، جرى توقيفه وملاحقته أخيرا بصك غليظ بالاتهامات. لقد شكل عصابة وفق المزاعم المنسوبة إليه (هذه العبارة حشرت هنا بشكل متعمد للتذكير بمقتضيات حفظ قرينة البراءة) تتكون من رجال شرطة ووسطاء مدنيين وقاضيا. كان الهدف دائما، هو الحصول على رشاوى مقابل نيل المعنيين معاملة تفضيلية تنطلق من مخفر الشرطة حتى تصل إلى المحكمة. تقوض هذه القصة محاولات لم تكل لتصوير القضاة كأشخاص منيعين إزاء الفساد. ولقد بدأ ذلك منذ حوالي ثلاث سنوات. طيلة هذه المدة، لم تعد عبارة “قاض فاسد” ترد في أي مكان، لا في قصاصات الصحف، ولا في بيانات المجلس الأعلى للقضاء، ولا في عمليات الرقم الأخضر. فجأة، ساد سكون غريب في الأرجاء. كان على ذلك السكون أن يستمر قبل أن يخلق شخص غريب عن كل هؤلاء الاضطراب في كل مكان. أفرغت الشرطة ساعات طويلة من التسجيلات الصوتية بين ذلك القاضي وشركائه، ولقد سمحت هذه الوسيلة التكنولوجية للمدنيين بأن يواجهوا الغطرسة بكل تفان. سيتعين علينا أن نترقب الكشف عن مضمون تلك التسجيلات كي نطلع عن كثب عما حدث كما حدث، والأشخاص الذين ذكرت أسماؤهم، أو أسماء أبنائهم، والتقنيات التي كانت تُستخدم تبعا لذلك لإقناع الضحايا بدفع الرشاوى. سيمنح لنا ذلك –إن لم يجر حجب ما هو مهم في أوراق الملف- فرصة ثمينة لفهم الموقف المتشدد للسلطات إزاء هذه القضية بالضبط. وفي غالب الأحوال، سيمضي وقت طويل قبل أن ترد قضية مشابهة. هذه القضية إذن، مهمة رغم كل شيء.

إذا كان هناك أمر عصي على فعله في هذه البلاد، فهو مراقبة أعمال القضاة. لم يكن هناك أفراد مغتاظين من توقيف عضو النيابة العامة أكثر من زملائه الذين يشعرون بالقوة. لقد رفضوا أن تنشر الصحف قصته، ثم غضبوا لوضعه في السجن. يشعر الصحافيون، كما المواطنون العاديون، بالخوف إن هم حاولوا الوقوف في وجه القضاة. بئس المصير كما يقال.

تلقي هذه العملية الضوء على الطريقة الهشة التي يسمح بواسطتها للقضاة بأن يعملوا دون أي رقابة. أصبح القضاة يراقبون بعضهم البعض كما ألحت على ذلك بنود استقلال النيابة العامة والقضاة. وفي عملية المراقبة كما صممها أولئك الذين بذلوا جهدا لتسويق هذه العلامة الجديدة في عمل المحاكم، يخفت دور التفتيش الحق. بمجرد تفكيك أقسام التفتيش في وزارة العدل، حُفر قبر واسع، ورُميت فيه وسائل البحث. من الضروري أن تكشف لنا سلطات المراقبة عما تراقب وكيف تفعل ذلك.

لا تقدم البيانات الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء تفاصيل على قدر من الأهمية من شأنها أن تغني المناقشات حول تخليق القضاء. وفي الغالب، كما تشكو من ذلك نقابات القضاة أنفسهم، يلوح بالعقوبات في وجه أي عضو يشعر بالقلق ثم يدون ذلك في الشبكات الاجتماعية أو على الصحف.

يحتاج القضاة- جالسين كانوا أو واقفين- أن يتمعنوا في المرآة مليا، وألا يخجلوا. إن شعور الناس بأن المحاكم تحميهم لا يمكن إسناده بهذه الصورة المشوشة لقطاع يجري تصويره دون ملل كموقع منيع إزاء الفساد. إن المواطنين هؤلاء هم من لا يشعر بأي تردد عندما يُسألون من لدن مراكز استطلاع الرأي، وهم يقدمون أجوبتهم عما تعنيه المحاكم بالنسبة إليهم. وتزخر تقارير منظمات الشفافية بهذه الآراء على كل حال. إن حجب الوقائع، كيفما كانت محدودة، أو إعاقة أي مجهود لمعالجتها بكل تشدد، إنما يعزز المخاوف من أننا إزاء غول منيع إزاء أي ملاحقة.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي