عبد الحق بلشكر يكتب: سلطة الصورة

01 ديسمبر 2020 - 19:20

اجتاحت باريس احتجاجات جديدة يوم السبت الماضي، معيدة إلى الأذهان احتجاجات «السترات الصفراء»، لكن هذه المرة خرج المحتجون دفاعا عن الحريات ضد مشروع قانون يمنع نشر صور رجال الأمن. يبدو غريبا احتجاج حوالي 130 ألف شخص في العاصمة الفرنسية باريس، وتحول الاحتجاج السلمي إلى مواجهات مع الشرطة وإحراق سيارات واعتقالات، في ظرفية تتسم بتفشي جائحة كورونا. لكن يبدو أن خوف المحتجين من انتشار العدوى كان أقل شأنا من خوفهم من المساس بحرية التعبير ونشر الصور على الأنترنت، رغم أن العدوى تهدد الحق في الحياة، وهو أسمى من أي حق آخر. ولعل ما أجج الغضب في أوساط الرأي العام والحقوقيين والصحافيين، وأدى إلى هذا النزول المفاجئ إلى الشارع، هو تزامن مناقشة مشروع قانون «الأمن الشامل»، الذي تضمن تجريم نشر صور رجال الأمن، والذي جاءت به الحكومة اليمينية، مع حادث مثير، يتعلق باعتداء أربعة من رجال الشرطة على منتج موسيقي ذي بشرة سمراء داخل أستوديو يعمل فيه بباريس. فرغم أنهم اعتدوا عليه، فإنهم برروا تدخلهم بأن هذا الشخص قاومهم وخرق القانون، وكانوا يهيئون لتقديمه معتقلا للمحاكمة رغم الإصابات الظاهرة على وجهه وجسده، ولم ينقذه من هذا المصير سوى نشر شريط فيديو عبر الأنترنت سجلته كاميرا، يوثق اعتداء وحشيا من لدن رجال الشرطة على الرجل، فخلف انتشاره على نطاق واسع حالة من الغضب والتنديد، وأدى إلى قلب الحقائق، مظهرا حقيقة الشطط الذي مارسه رجال الشرطة في حق هذا الرجل الذي صرح بأنه تلقى وابلا من السب العنصري من لدن رجال الشرطة وهم يعتدون عليه، من قبيل: «الزنجي القذر». وبناء على مضمون الشريط، توبع رجال الشرطة، اثنان منهم رهن الاعتقال، واثنان يخضعان للمراقبة القضائية. أظهرت هذه الواقعة سلطة الصورة، وجعلت الفرنسيين يعبرون عن غضبهم، ويخرجون إلى الشارع، ليبلغوا الحكومة رسالة مفادها أن تجريم نشر صور اعتداءات رجال الشرطة يعني توفير الحماية لهم والتغطية على شططهم، وإخفاء الحقائق عن تجاوزاتهم.

نتذكر أن حادثا مماثلا، وأكثر مأساوية، وقع في المغرب في يوليوز 2019، وكيف أسهم نشر شريط فيديو على الأنترنت في إظهار الحقيقة. يتعلق الأمر بإطلاق مفتش شرطة ممتاز، يعمل بفرقة الأبحاث التابعة لمنطقة أمن أنفا، الرصاص على شاب وشابة وقتلهما في الدار البيضاء في ظروف غامضة، وقيل حينها إن الشرطي كان في حالة دفاع عن النفس، لأنه ووجه بسلاح أبيض، لكن، بعد نشر الشريط الذي صوره مواطنون، ظهر أن الشرطي أطلق الرصاص ببرودة دم على رأس فتاة ملقاة على الأرض لم تبد أي مقاومة، فيما كان صديقها بجانبها غارقا في الدماء. وشكل الشريط حجة استندت إليها التحقيقات لاعتقال الشرطي ومحاكمته.

في فرنسا، تبرر الحكومة تجريم نشر صور رجال الشرطة «بسوء نية»، بحمايتهم من حملات الكراهية والتهديدات بالقتل التي يتلقونها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكشف تفاصيل حياتهم الخاصة، لهذا، نصت المادة 24 من قانون «الأمن الشامل»، المثير للجدل، على معاقبة كل من ينشر صورا لعناصر من الشرطة والدرك بـ«سوء النية» بالسجن سنة واحدة وغرامة قدرها 45 ألف أورو. ولكن هذا النص الفضفاض يمكن أن يؤدي إلى معاقبة كل من نشر صور رجال الأمن، حتى ولو كان الغرض هو فضح شططهم. ولهذا، خرج المعارضون للاحتجاج، معتبرين أن العديد من قضايا العنف والشطط، اللذين تمارسهما الشرطة، ما كانت لتظهر للعلن لو لم تلتقطها عدسات صحافيين وهواتف مواطنين، وتُنشر على مواقع التواصل، وانضمت مؤسسات صحافية إلى حملة الرفض بتوقيع 30 مؤسسة إعلامية عريضة رافضة لمشروع القانون.

يظهر من هذه الواقعة أن حرية النشر عبر الأنترنت أصبحت مكتسبا للشعوب، فهي أداتها الفعالة لكشف الفساد والشطط، وللتعبير الحر عن الرأي، لذلك، يقابل الرأي العام بحساسية كبيرة كل مسعى للحكومة للتضييق على هذا الحق )رغم الممارسات السلبية التي يعج بها الفضاء الافتراضي، من قبيل التشهير ونشر الأخبار الكاذبة(. ولعل أبرز مثال هو ما وقع في المغرب لمشروع قانون مراقبة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، والذي أغضب الرأي العام بسبب تجريمه «الدعوة إلى مقاطعة المنتجات والسلع»، وتجريمه «التشكيك في جودة وسلامة المنتجات والبضائع»، فكانت الاحتجاجات في مواقع التواصل وحدها كافية لتجميده.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي