مصطفى ابن الرضي يكتب: التطبيع بين (ومع) المغاربة

23 ديسمبر 2020 - 22:25

فلنقفز سريعا على الموقف مما سمّاه رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، في حواره مع “الجزيرة”، “انفتاحا على الآخر”، وهو يشير إلى العلاقة مع إسرائيل، في محاولة “لطيفة” لتخفيف وقْع الخطوة، ولننظر في مرآة أكثر وضوحا لنرى حقيقتنا، ونحن نهرول بالموقف، خِفافا وثِقالا، نحو التطبيع بكل تشنّج.

ودع عنك الإنشائيات عن التسامح بين الشعوب، وعن الحق في التواصل مع الغير، ومدّ جسور التقارب مع البعيد، وانظر فيما يفعله البعض وهو يسيء بشكل محموم لأساسات تقبّل اختلافاتنا كمغاربة، ويدمّر كل التعاقدات الضمنية التي كانت تحمي تعدد الآراء، ويشنّع بحقنا في أن نختلف، مصوّبا فوهة مدفع “الوطنية” على الأفواه التي تريد أن تتحدث، وحتى قبل أن يعرف ما تريد قوله، ولا يهمّه أصلا ما تقول، لأنه لا يريد أن يسمع إلا صوته.

كتب الزميل الصحافي مصطفى أزوكاح مناديا، في تدوينة في الفايسبوك، بالتقاط عجيب، عن التطبيع فيما بيننا كمغاربة وهو يعلّق على “النقاشات المتشنجة” و”العداء والتنافر” و”منطق الهوليكانز” الجاري.

راقني هذا “التحوير” اللطيف والذكي، وأخذت وقتي لتأمله، ووجدت أننا نحن المغاربة، وإذ نختلف ونتساجل بشأن التطبيع مع إسرائيل (هذه العبارة التي صار يرفضها البعض، وفي مضمون “مرافعاته” يذهب إلى ما بعدَ بعدَ التطبيع)، نشطُّ ونتعسّف على مغربيتنا حدّ التشكيك في الوطنية، ما استحق، حقاً وحقيقة، وعلى وجه الاستعجال، تطبيعا فيما بيننا، وتطبيعا مع تقبّل كل الآراء، وقبول التدافع بشأنها، والاستقرار في مساحات واسعة من الاختلاف، ومن التوافق، تحت سقف الوطنية، وليس دفعا لبعضنا خارج دوائرها، التي يريد البعض تسجيلها ملكية حصرية، ويخلط، عن قصدٍ ماكر وبسوء نية، بين الموقف من الوطن الجامع، وبين الموقف من تقدير سياسي يبقى اجتهادا بشريا يمكن قبوله، أو ردّه، أو التحفّظ على بعض تفاصيله.

تقرأ في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي مقالات صحفية، وحتى مواقفَ سياسية، ما يجعلك تضع يدك على قلبك بالنظر إلى الكمّ الهائل من العنف في الموقف، والتصلّب والتشنّج، واستخدام سلاح الوطنية في النقاشات، وعبر استدعاء لغة فاحشةِ الإقصاء، والتي تقف بنا جميعا على تخوم التخوين الصريح.

فعلا، نحتاج تطبيعا فيما بيننا، وتهدئة في النقاش، لأن موجة الاصطفاف عالية، ويزيدها علواً تنطّع البعض وهو يزايد على جزء من المغاربة بالوطنية، ذلك السكين الحاد الذي يُستعمل أداةً سريعةَ الأثر في القتل الرمزي للمخالفين.

ما يقع خارج الوطنية هو فعل الخيانة، وتقديم خدمات لجهات أجنبية ضد مصالح الأمة، والتآمر على الوطن، وتعريض الأمن الوطني للخطر الشديد، وما شاكل هذه الأمور. أما الاختلاف في الرأي فمن مشمولات المواطنة وحقٌ وليس مِنّة، والتي لا يجب أن يضيق بها أحد، أو يهرب إلى الأمام متخفّفا وعاريا من مستحقات الدولة الحديثة والدمقرطة، متوهما أنه مالكُ الحقيقة على الإطلاق.

إننا نعيش حالة من الهدر لحقّ الناس في التعبير. ولا نفشي سرّا ولا نتقوّل غير الحقيقة في هذا الصدد. إن من يزايد على الناس بالوطنية يذهب بعيدا في التّجني، ويقف عند حدود الاستعداء على الآراء، ويمارس الإلغاء.

وإن المرء ليكاد يقتنع بلا جدوى التعبير عن الرأي في زمن يضيق بالرأي سريعا. لهذا سيكون مبررا، بل ومطلوبا عاجلا غير آجل، التطبيع فيما بيننا كمغاربة، ومع الحق في الاختلاف، ومع تقبّل الآراء.

إننا بصدد نسخة زائفة عن التعدد، لأن الواقع يشي بأن كثيرين انسحبوا وتركوا جَمَلَ النقاش الجادّ بما حَمل من “غثاء السيل” الجارف في شبكات التواصل (غير الاجتماعي)، وأيضا بمن حمل وِزر أن يتقوّل بالوطنية وحده، فسدّ على الوطن طريق الثراء في المواقف، والغنى في التعبير، واستأسد، زاعما أن في ذلك صلاحا للمغرب، وأنه يسدي خدمات للسلطة، فيما العملية برمتها خداعٌ ممن يريد مصادرة الفضاء العام وإخلاءه من النقاشات بـ”منطق الهوليكانز”.

إن الصوت المكتوم أخطر. وإن الصوت الوجِل المرتعد أخطر. وإن الصوت المتردّد أخطر. وإن الصوت الزائف أخطر. وإن الصوت الذي لا ينطق إلا بالدفع المسبق أخطر. وإن الصوت العالي الذي يصمّ الآذان (في المجتمع والدولة) عن سماع كل التعبيرات أخطر. وإن الصوت غير المتخلّق بالحق في الاختلاف أخطر، لأنه سيولّد “سُلالات” جديدة من الرعونة التي ستكون أكثر تطرفا وانحرافا وعدائية.

إن الاستخدام المفرط لـ”سلاح الوطنية” في غير ما يُستحق من سجال مطلوبٍ يفقده قيمته، ومادام يجري استدعاء هذه الكلمة الساحرة، الخفيفة في اللسان الثقيلة في الميزان، في غير محلّها، وبشكل فاسدٍ ومفسد.

لقد مثّلوا بكلمة “الوطنية” في ساحات شبكات التواصل الغاصّة بجمهور يحتفي بالفرجة وبالعنف، وفي المواقع الإلكترونية المنفلتة من عِقال المهنية والأخلاق، مستثمرين في الانقسامات التي يمكن تدبيرها بأقل قدر من الحكمة والهدوء، ونقلوا الاختلاف إلى مستويات غير مقبولة تقسّم الناس فريقين: وطني وغير وطني.

إننا نحتاج “خفضا لمنسوب التوتّر” و”وقفا لإطلاق النار” في فضاءات النقاش المجتمعي، وتدخلا من “قوات حفظ السلام” المجتمعي، من شخصيات وهيئات ومسؤولين، لوقف النزيف، ولإنهاء التدهور، والحسم مع الشَناعات. وشَنَاعَة عمل: قبحه ورداءته.

باختصار، نحتاج تطبيعا للعلاقات فيما بيننا، ومحوا للطّبَع (والطَّبَعُ هو الوسخُ الشديد والصدأ والشَّيْن والعيب).

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي