مصطفى السحيمي يكتب: مهرجان فاس.. العدالة ماضية في سبيلها

06 يناير 2021 - 07:00

يا لها من حكاية! من كان ليقول أو يصدّق ذلك؛ الرئيس السابق لمؤسسة روح فاس، عبد الرفيع زويتن، متابع أمام غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف في العاصمة الروحية للمملكة، في دعوى جرى تحريكها بسبب الاشتباه في تبديد أموال عامة. فبعد أربع سنوات من التحقيقات، انعقدت جلسة يوم الأربعاء 23 دجنبر الماضي، وأدخلت هيئة المحكمة الملف للمداولة كي تنطق بالحكم في بداية السنة الجديدة.

بدأ كل شيء مع شكاية قدّمها عبد الحميد بنمخلوف، عضو مؤسس لهذه الهيئة، وذلك بسبب شبهة تبديد أموال عامة. تولى الملف قاضي التحقيق المتخصص، محمد الطويلب، الذي قام بتحقيقات معمقة، واستعان بخبرة أنجزت حول حسابات المؤسسة كلّف بها مكتب محلّف، وجرى استدعاء 20 شركة بينها وكالات تواصل ووكالات أسفار وممثلو أبناك… كما أنجز افتحاص لعشرات الأشخاص، ليصبح الملف جاهزا، ويحين وقت القضاء ليقول كلمته.

ما الذي فتح هذه المسطرة في الأصل؟ إنها فاتورة بقيمة 48 ألف أورو، أي حوالي 530 ألف درهم، لاستئجار طائرة من أجل تأمين رحلة بين فاس وميلانو، وهي الرحلة التي قام بها الرئيس السابق رفقة ابنته في إطار مهمة «أعمال»… إثارة كبيرة سببها الأمر داخل فريق المؤسسة في الأيام والأسابيع الموالية، ثم بعد ذلك بين المنابر الصحافية. حاول الرئيس السابق تبرير الأمر لبرهة، ودفع بأن الرحلة كانت خصصت لنقل عازفة الكمان، «آن كرافوان»، من أجل تقديم عرض موسيقي في المدينة الإيطالية، بعدما كانت مدعوة إلى مهرجان فاس، وهي في الوقت نفسه زوجة الوزير الأول الفرنسي السابق إيمانويل فالس.

أثار التبرير الضوضاء، وأصبح موضوع مسطرة غير رسمية من جانب الخارجية الفرنسية، التي دعت عبد الرفيع زويتن إلى عدم الإقدام مجددا على ترديد هذا التبرير. فإيمانويل فالس نفسه كان موضوع قصة طائرة أخرى قبل ثلاثة أسابيع من هذه الواقعة، حيث ذكر اسمه في ارتباط برحلة ربطت بين بواتيي وبرلين يوم 6 يونيو، والتي جرت على متن طائرة رسمية. وفي هذه المرة أيضا جرى تقديم الرحلة على أنها كانت مندرجة في مهمة «أعمال»، وتحديدا لحضور اجتماع للاتحاد الأوربي لكرة القدم… لكنه، وللصدفة، كان مرفوقا باثنين من أبنائه، وهو ما أثار عدة تساؤلات، خاصة أن هذه الرحلة زامنت مباراة جرت في العاصمة الألمانية، بين فريقي «إف سي برشلونة» الذي يعتبر فالس أحد مشجعيه، وبين «جوفنتوس توران» الإيطالي.

راجع زويتن روايته بناء على ذلك، واستبعد مسؤوليته عن الأمر لأن الراحل تاج الدين بادو هو من تحمل فاتورة الرحلة، والذي كان بالكاد عيّن مديرا لمهرجان فاس. وبعد تقدّم المسطرة، عاد زويتن ليقرر دفع قيمة هذه الفاتورة كاملة، أي ما قيمته 48 ألف أورو، لفائدة المهرجان. لكن ملف القضية فيه شيء آخر؛ متابعة زويتن بتهم أخرى، منها محاضر اجتماعات مجلس الإدارة، والتي يعتقد أنها مزورة، وقد جرى الاستماع إلى المعنيين بها خلال التحقيق. على هذه الأسس، استبعد زويتن بعض أعضاء مجلس الإدارة، باعتبارهم «مزعجين»، لكنه ارتكب خطأ قاتلا، حين شملت قراراته استبعاد أعضاء من جمعية «فاس سايس»، التي تعتبر المالك الوحيد لحقوق الملكية الفكرية لمهرجان فاس للموسيقى الروحية العالمية، والتي سُجلت بواسطة عقد موثق لدى المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية. وبناء على ذلك، قامت هذه الجمعية، التي يرأسها منذ تأسست عام 1994 محمد القباج، باستعادة حقوقها الخاصة بمهرجان الموسيقى الروحية.

قبل بضعة أسابيع، سُلم المشعل، بإشراف من محمد القباج، لعبد الحميد بنمخلوف، الذي عوّض البرلماني حسن سليغوة، وهو بدوره عضو «تاريخي» في مؤسسة «روح فاس». خطوة تشير إلى وجود مخاوف داخل المؤسسة. فمنذ سنوات، أصبحت إدارة منتدى فاس المنظم لمهرجان الموسيقى الروحية، غير منتظمة تماما. وإذا كان فوزي الصقلي قضى ولايتين طويلتين، من 1994 إلى 2007 ثم من 2010 إلى 2014، فإن آخرين لم يتركوا بصمات حقيقية على رأس التظاهرة، وذلك لأسباب مختلفة. فمن 2007 إلى 2010، تعاقب على الإدارة كل من نعيمة لحبيب وفاطمة الصديقي وعبد الحق العزوزي. أما تاج الدين بادو، فكانت له قدرات كبيرة لم يتمكن من تفعيلها ما بين 2014 و2016، فيما خليفته إدريس خروز، الذي عيّن في يوليوز 2017، لا يبدو أنه تمكن من وضع اليد فعليا على صلاحيات الإدارية، في حين كان عبد الرفيع زويتن يضغط عليه وينازعه الاختصاص. ولا يمكن المرور دون تسجيل المرور السريع لفيلسوف باريسي، هو إيف ميشو، الذي عُين على رأس المهرجان بضعة أشهر من لدن زويتن. فهذا الفيلسوف تميّز بتصريح أدلى به أسابيع قبل تنظيم المهرجان في دورة 2016، قال فيه، لصحيفة «لوموند» في عدد 30 أبريل، إن الإسلام لا يتلاءم مع الديمقراطية.

بعد تعيين عبد الحميد بنمخلوف، انخرط بشكل صريح في سياسة تجديد، محاولا تصفية التراكمات القديمة والاعتماد على الكفاءات المعترف بها. فمهرجان ومنتدى فاس تحوّلا إلى علامة راسخة على الصعيد العالمي، ببروز واضح في المشهدين الفني والثقافي. يعود هذا الرصيد أساسا إلى مجهودات محمد القباج، الذي بنى مصداقيته ووجاهته الشخصية على مدى عقود، وإلى فوزي الصقلي، عالم الإسلاميات والأنتروبولوجيا المعروف، وكل من عبد القادر الوزاني وحميد عنباسي، اللذان شاركا في إدارة المهرجان، وآخرين.

في النهاية، قرر محمد القباج استرجاع زمام التدبير، وتصحيح المسار لإعطاء نفس جديد لمغامرة كبيرة عمرها ربع قرن. يعمل القباج على إحياء مهرجان روح فاس، ومواصلة الإنصات إلى مسير العالم في رحلة بحثه عن الروحانية، وتوسيع وتعزيز الحوار بين الثقافات والأخوة. التزام يدور حول قيم تنحدر من إنسية عالمية، يملك كل من المغرب ومدينة فاس شرعية حضور فيها يفوق الألف سنة. 

*أستاذ للقانون الدستوري ومحلل سياسي

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي