مصطفى كرين يكتب: مشروع القرن الأمريكي الجديد

08 يناير 2021 - 07:00

يتداول البعض بشكل عاطفي رومانسي ما تسبب في وما تمخض عن القمة الخليجية، وهي مقاربة سطحية منفصلة عن الواقع لا تسعفنا في فهم ما يحدث، لأن ما يحدث ضارب في أعماق التاريخ والجغرافيا في آن واحد، آنيًا ومستقبليا، وتعود بذوره لثلاثين سنة على الأقل.

ولفهم ما يجري من تحولات لا بد من استحضار ما يعرف بـ »مشروع القرن الأمريكي الجديد »، والذي نعيش ببساطة اليوم أحد إنجازاته السياسية. و »مشروع القرن الأمريكي الجديد » هو مؤسسة فكرية تابعة للمحافظين الجدد، تأسست على يد كل من الصحفي ويليام كريستول وهو إعلامي بارز، وروبير كاغان وهو متخصص في العلوم السياسية وينتمي الاثنان للحزب الجمهوري ويعتبران من أهم الداعمين المخلصين لإسرائيل والمدافعين عن تقوية الحضور الأمريكي عسكريا وسياسيا بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعملت هذه المؤسسة ما بين 1997 و2006 على بلورة أركان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لتكريس التفوق الحضاري الأمريكي، وتنبني على فكرة واضحة مؤداها أن « كل ما هو جيد لأمريكا فهو بالضرورة جيد لبقية العالم ».

ومن أهم ما خلصت إليه هو أن أوروبا التي تعرف أفولًا تدريجيا وعدم انسجام كبير بين مكوناتها وبطأً كبيرا في الحركة وفي اتخاذ القرار، قد أصبحت عبئا على أمريكا في سياق الصراع على الريادة مع محور روسيا/الصين، كما أنها تفتقد للموارد الطاقية والمعدنية والطبيعية للمساهمة بنصيبها في إدارة المواجهة مع القطب المنافس، ولذلك أصبح لزاماً على أمريكا أن تجد شريكا بديلا وأن تقوم بإعادة ترتيب نفسها أولا وعلى المحور الأنجلوسكسوني والعالم بشكل عام، وإعادة النظر في تحالفاتها من خلال المراهنة على بريطانيا العظمى وإسرائيل اللتين تشتركان مع الولايات المتحدة في العديد من الخلفيات والرؤى السياسية والجيواستراتيجية، فإسرائيل ولدت في بريطانيا وترعرعت في أمريكا.

وما الأحداث المتسارعة التي نراها اليوم في منطقة مينا MENA ( Middle East and North Africa) سوى تنزيل للاستراتيجية الأمريكية المذكورة، سواء أردنا تسمية هذه الاستراتيجية بالتطبيع أو شيء آخر، ولذلك لا يختلف لقاء الخليجيين فيما بينهم بحضور كوشنر عن لقائهم أو لقاء بعضهم بإسرائيل بحضور كوشنر في انتظار التحاق البعض الآخر، فالمشروع أكبر بكثير من الدول وحتى التكتلات الحالية المعروفة .

لذلك فإن صدور بلاغ عن وزارة الخارجية المغربية حول القمة الخليجية وإن كان يعتبر في حد ذاته حدثا غير مسبوق، لأنه يندرج في سياق مسار سياسي جديد تماما، إلا أن ورود كلمة « لم الشمل » في البلاغ تعتبر تمهيداً « لغويا » وإعدادًا ذهنيا لإجراءات سياسية اندماجية تتجاوز منطقة الخليج والتي باتت قاب قوسين أو أدنى، وأتصور أن أرضية انضمام المغرب لمجلس التعاون الخليجي وبرنامج عمل المجلس لاحقا (والذي لن يبقى خليجيا بل سيأخذ حتما تسمية أخرى، ربما مجلس تعاون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، قد باتا ربما جاهزين ولا ينتظران سوى الأجرأة، وأعيد التأكيد هنا على أن هذا الانضمام نفسه والذي بات وشيكا لا يعدو كونه مرحلة فقط من مراحل توحيد منطقة « مينا » MENA كما سبق أن أوردت في مقال سابق، وستتلوها عملية اندماج سياسي واقتصادي وعسكري جبارة تشمل إسرائيل الموحدة (في إشارة إلى نهاية حل الدولتين). الملفت للنظر في كل هذا هو أن السرعة التي تسير بها الأمور تجاوزت كثيرا قدرة البنيات التقليدية والبطيئة الحركة مثل الاتحاد الأوروبي على فهم واستيعاب ما يقع، باستثناء إنجلترا التي تعتبر جزءًا من العملية، ولذلك يبدو أن البريكسيت لم يكن بالنسبة لها مجرد خطوة عادية أو عبثية، بقدر ما كانت خطوة تتعلق بتغيير الشراكات والانخراط في الدينامية السياسية والاقتصادية الجديدة التي لم يكن الاتحاد الأوروبي ليسايرها. كما أن تركيا التقطت الإشارة وأصبحت تسير في نفس الاتجاه ولا يمكن فهم تحركاتها الأخيرة في البحر الأبيض المتوسط والتغاضي الإسرائيلي الأمريكي عن ذلك وتصريح أردوغان برغبته في التقارب مع تل أبيب، سوى في هذا السياق.

وحدها الصين تدرك حقيقة ما يقع، ولذلك فهي تسارع الخطى كذلك من أجل خلق تكتل آسيوي قوي بالموازاة مع تكريس وتعميق وجودها في القارة الإفريقية، والعمل على خلق تبعية أوروبية لاقتصادها حول محورين أساسيين: التكنولوجيات الحديثة والطاقة .

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

مواطن منذ 3 سنوات

«وحدها الصين تدرك حقيقة ما يقع» ؟ عفواً، هذا تواضع مُلفت يُحسَب للكاتب الذي ما كان أن "يُتحِفنا" بهذا التحليل الجيو-ستراتيجي لولا إدراكه الثاقب و الأكيد «لحقيقة ما يقع». يبقى أنه من باب «إتمام الحسنة»، كان على كاتبنا أن يفيدنا بجدول زمني و لو نسبياً كمؤشر على مراحل و ترتيبات توحيد منطقة "مينا" التي يُبشرنا به و مادام يؤكد و يعيد التأكيد على وشك حدوثها. اللَّهم زدنا هكذا علماً و ألمعية !

التالي