محمد الشرقاوي  يكتب: حتى لا يصبح التحليل السياسي تضليلا معرفيا لدى العرب

12 يناير 2021 - 23:59

لم تهدأ موجة التنديد بما أقدم عليه الرئيس ترامب عندما دعا مناصريه إلى اقتحام مقر الكونغرس ونسف جلسة إقرار نتائج الانتخابات الرئاسية. وتتعزز الأصوات بضرورة إنهاء مهامه في البيت الأبيض على الفور بقيادات الحزب الجمهوري الذين كان بعضهم في صفه حتى هذا الأسبوع. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، يدور النقاش في واشنطن حول أربعة خيارات للحد من مخاطر ترامب:

1- توافق نائب الرئيس بنس ونصف مجموع الوزراء على أن الرئيس ترامب لم يعد يملك الأهلية لممارسة مهام الرئاسة وفق التعديل 25 في الدستور: وهذا خيار مستبعد.

2- بدء محاكمة ترامب في مجلس النواب قبل تصويت مجلس الشيوخ على إدانته ابتداء من يوم الاثنين؛ خيار مرتقب، لكنه سيأخذ بعض الوقت إلى ما بعد تنصيب الرئيس المنتخب جوزيف بايدن يوم العشرين من الشهر الجاري؛ احتمال عملي ومرتقب.

3- رفع حالة التأهب عبر الوكالات الفيدرالية، خاصة وزارة الدفاع، بعدم تنفيذ أي أوامر للرئيس ترامب في الأيام الاثني عشر المتبقية من رئاسته؛ وهو حل عملي بمقولة الأمر الواقع.

4- ممارسة الضغط على ترامب لكي يستقيل من منصبه بموازاة المحاكمة البرلمانية الحتمية على ما يبدو؛ لكنه احتمال مستبعد بالنظر إلى شخصية ترامب ومزاجه العنيد.

أصبح الرئيس ترامب في حالة تجميد وتهميش، فيما يزداد دور رئيسة مجلس النواب في حماية المؤسسات الدستورية، وكما يقول التعبير الفرنسي، حيث جرى إيداع الرئيس ترامب في الثلاجة.

كانت محاولة الانقلاب الناعم في واشنطن بمثابة ثورة في فنجان، وعادت المؤسسة السياسية، وفي مقدمتها الكونغرس، بشكل حاسم لحماية أمريكا واحتواء ما سعى إليه ترامب وأنصاره. وبعد خمس ساعات من الاقتحام، عاد أعضاء الكونغرس إلى استئناف جلستهم وإقرار نتائج الانتخابات قبل الرابعة من صباح اليوم الموالي. لكن مشهد الأربعاء الأسود يثير سؤالا مهما: هل هناك فهم عربي واقعي ومتنور للنظام السياسي الأمريكي، وكيف تتحرك التوازنات والضوابط بروح الدستور في ضوء الأربعاء الأسود في واشنطن؟ وكيف الفصل والوصل في تركيب معرفة موضوعية بحقيقة أمريكا؟

من أغرب ما قرأته هو اجتهاد متنام هذه الأيام يقوم على فرضية مثيرة وهي تماهي انهيار أمريكا حاليا على غرار انهيار الاتحاد السوفياتي، وكأن أصحابها توصلوا بألمعيتهم إلى لحظة «يوريكا». شخص يقدم نفسه بعبارة «الدكتور..» وأنه «رئيس تحرير» وكالة أنباء عربية لها جمهور واسع، قارن بين «بداية انهيار الولايات المتحدة الأمريكية»، وعلى الهواء مباشرة، و«انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991». كان خيال هذا «المحلل» جامحا في ترويج فرضية «الأحداث نفسها والزخم نفسه والبدايات نفسها. هناك حطموا تماثيل لينين وأسقطوها أرضا، وانقسمت جمهوريات السوفييت إلى قوميات، وكانت أمريكا حينها ترقص فرحا وتركض من عاصمة إلى أخرى، وتغذي النزعات القومية للانشقاق والانقسام».

عندما يصبح التحليل السياسي غير موضوعي ومغاليا في ترويج مقولات من «عندياتنا»، يتوصل إلى خلاصات تليق بأفلام هوليود وليس واقع واشنطن، فهو يزرع في أذهان قرائه فكرة أن «أمريكا ستتحول إلى حكم البنتاغون (حكم العسكر) وما ستقوله قيادة الجيوش سيحسم الأمر»، وهذا تركيب نمطي ينسج على منوال الانقلاب السيساوي في مصر. ويجمح الخيال لدى صاحبنا إلى ما هو أكثر غرابة بالتنبؤ بانهيار أمريكا بقوله: «أما قيمة الدولار في سوق العملات وأمام بورصات العالم، فسوف تنزع صمام أمان الثقة عن عملة أقوى دولة في العالم.»

لا يقتصر جموح الخيال والإسقاطات الذاتية على شخص أو عشرة فحسب، بل هناك جمهرة من نجوم التحليل، عفوا التضليل السياسي، ممن ينفخون في فرضيات غريبة وخلاصات واهية قد تغرّر بذكاء الجمهور. كتب آخر يقول: «أمريكا الإمبراطورية تتداعى. وأمريكا الدولة داخل حدودها تعيش لحظة ارتباك غير مسبوق. ثلاث سنوات ونصف من حكم ترامب أدخل الدولة إلى فضاء لم تكن من الممكن أن تدخله في عملية تشبه كثيرا ما فعله غورباتشوف في نهاية حقبة الثمانينيات من القرن الماضي في الاتحاد السوفيتي».

لا خلاف على أن خطة ترامب انطوت على محاولة تجاوز الدستور والمؤسسة السياسية للبقاء في السلطة، وثمة أكثر من نقطة يمكن انتقادها في السياسة الأمريكية وإلى أين وصلت الولايات المتحدة في ظل الانعزالية السياسية التي كرسها الرئيس ترامب خلال السنوات الأربع الماضية. لكني أخشى أن يصبح التحليل تضليلا عندما لا يستند في خلاصاته إلى وقائع حقيقية ومؤشرات واقعية، وبالتالي، يقدم إلى جمهور القراء والمشاهدين حبكة تسيء إليه في قراءة أمريكا. ويقدم هؤلاء أنفسهم بمظهر الواثقين من منهجيتهم العلمية، كقول أحدهم: «الشيء بالشيء يذكر، ونحن هنا لا نبتكر ولا نخترع نظرية ما، بل نعتمد القياس والتطبيق بطريقة علمية منطقية».

مثل هؤلاء خبراء يدّعون القياس العلمي، وهو منهم براء.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي