جيوبوليتيك الانتقام

09 فبراير 2017 - 12:33

للأنغلوسكسونيين، من بين عيوب أخرى موروثة عن عصور قوتهم العظمى، عيب كبير يتمثل في الاعتقاد بقدرتهم على الإفلات من العقاب.  مهما فعلوا لا يخطر على بالهم أبدا أن الآخرين يمكن أن يستخدموا الأسلحة ذاتها. فهم لا يعتقدون أنهم سيعانون يوما ما من شر الانتقام. والحال أنه في نظرية اللعب، وكذلك في الممارسة الاستراتيجية والجيوسياسية، تعلمنا أنه ليس من مصلحة الضعيف توظيف أسلحة القوي، لأن هذا سينقلب عليه حسب ما يُقال. فهذا الضعيف لا يجب أن يرد الضربة بمثلها، بل عليه البحث عن وسائل خاصة تماما مثلما الأساليب التي سخرها “داوود” عند مواجهة “جالوت”.

بالتالي، لا يدور اليوم في خلد الإنجليز أن الأوروبيين الآخرين قد يبادرون إلى إغلاق الأسواق القارية في وجههم، كما لا يخطر في بال الأمريكيين أن البلدان الأخرى قد ترفض الاستثمار لديهم، وتوظيف أموالها عندهم، وإرسال مواهبها، بل وقد لا تترك مواطنيها يقصدون بلاد العم سام للسياحة أو العمل.

فكل من الأمريكان والإنجليز يعقتدون أن شركاءهم في حاجة ماسة إليهم، حتى إنهم لا يجدوا بدا من الاستسلام لهم والخضوع لتصرفاتهم الأحادية، بل وسيتوسلون إليهم لكي يقبلوا حلا وسطا.

ويعول ترامب على هذا الأمر بالخصوص: بما أنه رجل أعمال يتحلى بحس تكتيكي عال، فهو يدرك أنه إذا طبق لوحده تلك الإجراءات، فسيجني فوائدها، إذ سيعيد مناصب الشغل إلى أمريكا، بينما سيواصل الآخرون استيراد المنتجات الأمريكية وتمويل عجزها المالي.

ماذا لو كان الأنغلوسكسونيون على خطأ؟ وماذا إذا لم يستسلم الآخرون لقوتهم الجبارة؟.. لو سخرت باقي بلدان العالم الأسلحة ذاتها ضدهم؟

فلو تحرروا من هذه التبعية الذهنية التي تعودوا عليها، سيدرك شركاؤه الأنغلوسكسونيون (خاصة الأوروبيين والصينيين) أن الأسلحة التي يحتكمون إليها فتاكة أكثر بكثير مما يعتقدون.

مثلا، يكفي، لمواجهة بريطانيا العظمى، أن يغلق الأوروبيون الأبواب أمام المنتجات البريطانية، سواء أكانت صناعية أو مالية، مستحضرين الفصول المعنية في معاهدة الاتحاد الأوروبي حتى ترضخ لندن. كذلك يكفي أن يتحالف الأوروبيون والصينيون لتطبيق الإجراءات الحمائية ذاتها – التي اتخذها ترامب لمواجهتهم- ضد الولايات المتحدة حتى ينهار الاقتصاد الأمريكي. هذا يعني: منع المواطنين الأمريكيين من دخول أوروبا والصين؛ منع المقاولات الأوروبية والصينية من الاستثمار بالولايات المتحدة، ثم التصدير إلى باقي مناطق العالم، وحظر شراء سندات الخزينة الأمريكية على الأبناك الأوروبية والصينية.

لقد حان الوقت لأن يتوقف خوف الأوروبيين والصينيين، وأن يهددوا (تيريزا) ماي وترامب تهديدا جديا بتطبيق إجراءات ملائمة ضدهما. إذا كانت هذه الإجراءات ذات مصداقية، فإن كل من ترامب وماي سيتراجعان تحت ضغط الأشخاص الذين ينصتون إليهم، (أي أصدقاؤهم المليارديرات). ولكن يجب أولا أن يكون في أوروبا أناس مصممون بما يكفي، لهم الرغبة في هذه السياسة وإعداد تصور لها، ثم تنفيذها.

لاشك أن المخاطرة كبيرة وقد تُفضي إلى دوامة جيوسياسية انتحارية. فالحمائية قد تنزاح إلى القومية، وقد تنزلق بالتالي إلى الحرب. والواقع أنه إذ لم يُقدِم الأوروبيون والصينيون على الحمائية، فلأنهم يدركون أن هذه الدوامة الانتحارية من الانتقامات لن تكون في صالح أي طرف. ولكن عدم القيام بإجراءات، قد يحكم علينا بالأسوأ لصالح قوى عفا عنها الزمن. بالمقابل اتخاذ تلك الإجراءات يعني خلق شروط لوضع حد لتلك الدوامة، وبالتالي بلوغ عولمة متحكم فيها وخاضعة لسلطة القانون…

 

ترجمة مبارك مرابط عن “ليكسبريس”

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي