اعتمد السلاطين المغاربة عبر التاريخ في تسيير شؤون الدولة، على ثلة من الرجال، إما لانتمائهم العائلي أو لكفاءتهم وولائهم.. وهكذا فقد تميز تاريخ المغرب المعاصر بظهور هؤلاء الرجالات حول الملك، الذين تركوا بصماتهم على مسار الحياة السياسية ببلادنا، كما كان لهم تأثير فعلي على توجيه بوصلتها.. كتاب « رجال حول الملك »، لمؤلفه محمد الأمين أزروال، يرسم بروفيلات للعديد من هؤلاء الشخصيات التي اخترنا نشر ملخصات عنها.
تنحدر أسرة الخطيب من أصول جزائرية وبالذات من مدينة معسكر، وإن كانت جذوره الأولى إدريسية، ذلك أنه- كما هو معلوم تاريخيا- عندما توفي المولى إدريس الأزهر، وكانت الجزائر يومئذ تابعة للإمبراطورية المغربية، قامت والدته كنزة بتعيين أبنائها الأمراء، حكاما على مختلف المناطق التابعة للمملكة الشريفة، وكانت منطقة الجزائر من نصيب أحدهم، ومنه تناسل أدارسة الجزائر الذين تنتسب إليهم أسرة الخطيب وغيرها من الأسر الإدريسية الشريفة المتواجدة بكثرة في الجزائر إلى حدود اليوم.
حكاية استيطان أسرة الخطيب المغرب وبالذات بمدينة الجديدة، ترجع إلى سنة 1905، عندما أشرف جده من أمه، الفقيه الكباص ممثلا للسلطان بمركز « زوج بغال »، على ترسيم الحدود بين الجزائر الفرنسية والإيالة المغربية كما كانت تدعى، وبما أن الفقيه الكباص لم يكن يتقن اللغة الفرنسية، ويتقن اللغة الإنجليزية، فهو مهندس مدني خريج جامعة أكسفورد الإنجليزية، وكان الذي تولى الترجمة بينه وبين الفرنسيين، هو ترجمان جزائري يدعى عمر الخطيب والد الدكتور عبد الكريم الذي أعجب به الكباص، واستقدمه معه إلى المغرب، وأقام بمدينة الجديدة.
واعتبارا لموقع جده الكباص الذي تربطه علاقة قديمة مع الملوك العلويين، بدءا من مولاي الحسن الأول وانتهاء بمحمد الخامس، كما شغل لفترة زمنية منصب الصدر الأعظم، ولموقع والده الاعتباري لدى السلطات الفرنسية أيضا، فقد نشأ الخطيب في أسرة أرستقراطية ودرس في أحسن المدارس الفرنسية، وبعد انتهاء دراسته الثانوية درس الطب بكلية الجزائر ثم بجامعة السوربون، حيث كان أول طبيب مغربي جراح فتح عيادته بمدينة الدار البيضاء في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وبما أن الدار البيضاء باعتبارها القلب النابض للمغرب، كانت تعيش بها نخبة من الوطنيين الذين أسسوا لخلايا المقاومة، أمثال الشهيد الزرقطوني وإبراهيم الروداني وغيرهما، فقد قاموا باستقطاب الدكتور الخطيب الذي كان قد أدرك بحكم قراءته السياسية للأحداث من جهة، ولعلاقته بالقصر الملكي، أن أيام فرنسا أصبحت معدودة في المغرب، وأن رياح الاستقلال بدأت تهب على القارة الإفريقية، وأنه لامناص من رضوخ فرنسا لإرادة الشعوب في الاستقلال والحرية، ومن ثم انخرط في العمل الوطني، وكانت عيادته ملجأ للمقاومين والفدائيين يساعدهم ماديا ويداوي جرحاهم.
وبعد وفاة الملك محمد الخامس سنة 1961، خلفه الملك الحسن الثاني الذي ترأس الحكومة التي أسندت فيها للدكتور الخطيب مهمة وزارة الشؤون الإفريقية، وقد كان الدكتور الخطيب من بين الشخصيات السياسية التي شاركت في صياغة دستور 1962، إلى جانب الزعيم علال الفاسي، حيث كانا معا وراء إقرار الفصل المتعلق بإمارة المؤمنين في الدستور، وخلال الانتخابات التشريعية لسنة 1963، فاز الدكتور الخطيب كممثل لقبيلة جزناية المجاهدة، بكل ما يحمله ذلك من رمزية، فمن جهة علاقته بجيش التحرير، ومن جهة ثانية علاقة المصاهرة، فهو متزوج من كريمة بوجيبار الذي شغل والدها منصب وزير المالية في حكومة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتم انتخاب الخطيب رئيسا لأول برلمان مغربي بعد الاستقلال.
ومن أبرز مواقفه أنه عارض قرار الملك الحسن الثاني حل البرلمان في 1965، وبعدها تفرغ لتسيير عيادة طبيب الملك الفرنسي « دوباروك بير » الذي توفي بقصر الصخيرات أثناء المحاولة الانقلابية 1971، وهي العيادة التي كانت قد تحولت ملكيتها لفائدة مؤسسة منظمات الاحتياط الاجتماعي.
كانت مظاهر حياة الخطيب توحي بأنه رجل منفتح على العصر، يعيش حياة أرستقراطية داخل أسرته، بعيدا عن أي مغالاة في ممارسة الشعائر الدينية، يصلي ويصوم ويحج كأي مسلم عادي (لايت)، وفي نفس الوقت مقبل على مباهج الحياة العصرية، كما أن بناته سافرات لا يرتدين الحجاب ولم يكن يتحرج من ذلك.
وبالمقابل كان منزله ومكتبه قبلة للدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين كانوا يتوافدون عليه باستمرار، من مختلف البلدان خاصة منهم رموز التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، كما كان عضوا في رابطة العالم الإسلامي وهو دائب على حضور مؤتمراتها، التي كانت تعقد سنويا في موسم الحج بمكة المكرمة.
شغف الخطيب بالعمل الإسلامي دفعه إلى اتخاذ عدة مبادرات، في اتجاه نصرة القضايا العربية والإسلامية، بدءا بالقضية الفلسطينية حيث كانت تربطه علاقات ودية مع قياداتها، على رأسها بطبيعة الحال ياسر عرفات، وفي منزله ولدت فكرة تأسيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني.
وعند غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، كان الخطيب سباقا إلى نصرة القضية الأفغانية، حيث بادر إلى تأسيس جمعية لدعم الكفاح الأفغاني ضد الغزو الشيوعي، كما استقبل عددا من قادة المقاومة الأفغانية، وسهر على تنظيم لقاءات في هذا السياق، كانت مناسبة لجمع التبرعات لفائدتها، وأذكر أنه كلفني بمرافقة أحد قادة المقاومة الأفغانية لتقديمه بتوصية منه للعديد من الشخصيات الوطنية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك إلى إرسال المتطوعين المغاربة للمحاربة إلى جانب المقاومين الأفغان، ومنهم الممرض الذي تحول إلى الشيخ أبو حذيفة والد الشيخ عبد الوهاب رفيقي أو أبو حفص.
وفي 1996، وافق الخطيب على فتح حزبه أمام حركة التوحيد والإصلاح، وتم تغيير اسم الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية إلى حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة اليوم.