في ظل جائحة كوفيد ــ 19، اختارت «أخبار اليوم»، أن تنشر سلسلة من الحلقات من كتاب مرجعي بعنوان: «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19»، لمؤلفه المؤرخ الراحل محمد الأمين البزاز، الذي اشتغل أستاذا بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويعد الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أشرف عليها المؤرخ جرمان عياش أشهرا قبل رحيله سنة 1990.
يعتبر طاعون سنة 1818-1820، حلقة من سلسلة واسعة بدأت من البلدان المتوسطية منذ عدة سنوات. ففي 1806 ظهر الوباء في مصر وبقي بها زهاء أربع سنوات، ثم انتقلت العدوى إلى عدد من البلدان المتوسطية، مما شكل خطرا على المغرب. وفي 1817 ظهر بالجزائر مخلفا 40 إلى 60 ضحية في اليوم، وتسلل من الجزائر وإلى وهران، ثم انتشر في نواحي الولايات الجزائرية مع قوافل الفارين.
والحقيقة أن المغرب لم يعد أعزل تماما أمام هذا الوباء، فمنذ طاعون 1798- 1800 أصبحت “خريطة القناصل” بطنجة تولي مزيدا من الاهتمام بالوقاية الصحية في المراسي. وهكذا، ففي الوقت الذي كانت أوروبا مشغولة عن البلاد بالثورة الفرنسية كان قناصلها بطنجة قادرين على اتخاذ سلسلة من التدابير الوقائية تنص على طرد المراكب الموبوءة وإخضاع ركابها بمن فيهم المغاربة لحجر صحي في أحد أبراج المدينة. ومع أن هذه التدابير لم تكن تخلو من ثغرات، فإنها لم تكن عديمة الجدوى. ويرى الطبيب الفرنسي رينو أن المغرب نجا من الحمى الصفراء سنة 1810، بفضل الحظر المفروض على جبل طارق وملقا، حيث تفشى الوباء، كما يذكر أن البلاد نجت من الطاعون سنة 1804 بفضل طرد مركب قادم من الشرق، وعلى متنه شخص موبوء.
ويفيدنا سجل “المجلس الصحي الدولي بالمغرب”، بأن “خونطة القناصل” عقدت اجتماعا طارئا عند وصول الأخبار بظهور طاعون بالجزائر عام 1817، وقررت ما يلي: أولا، فرض حضر صحي لمدة أربعة أيام على جميع المراكب القادمة من بلاد المغرب الكبير والمشرق الإسلامي، ولمدة يومين على المراكب القادمة من الموانئ الأوروبية فيما وراء جبل طارق. ثانيا، توجيه هذا القرار لعامل طنجة وأمين جماركها، وكذلك لنواب القناصل بمراسي تطوان والعرائش والرباط والصويرة. ثالثا، توجيه رسالة إلى السلطان لالتماس موافقته على القرار والعمل على تنفيذه، مع تذكيره بأن والده سيدي محمد بن عبد الله سبق له في ظروف مماثلة أن أقام حزاما عسكريا بين مملكته والولاية الجزائرية. رابعا، تعيين طبيب فرنسي مفتشا صحيا بمرسى طنجة لتعزيز المراقبة الصحية.
وعلى الرغم من أن الوثائق لا تفيد بشيء حول موقف مولاي سليمان من هذا القرار، فإنه مما لا شك فيه أنه استجاب له، وقد صرح مرارا بجهل المغرب بشؤون الحجر الصحي، معترفا للقناصل بخبرتهم في هذا الميدان، وقد جاء في أحد رسائله وهو يخاطبهم:
“فأنتم تعرفون كيف تتعاملون مع أهل الوباء في بياعتكم ومشترياتكم وتجعلون الدراهم في الخل وتتحفظون كل التحفظ، والمسلمون لا يعرفون ذلك، ولا يتحفظون مثل تحفظكم منه، وذلك فيه ضرر على المسلمين، وعلى قنصوات النصارى الذين بطنجة”. لكن السلطان كان يتحفظ أحيانا من مثل هذه القرارات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحجاج المغاربة العائدين إلى بلادهم من الديار المقدسة، وهذا التردد هو الذي نسف في الأخير قرار القناصل وفتح الباب على مصراعيها أمام تسلل الطاعون للبلاد.
كان بإمكان القناصل في بداية القرن التاسع عشر أن يجرؤوا على فرض الحجر الصحي حتى على الأمراء من أبناء السلطان. وإذا فعلوا، فهل بإمكان السلطان الموافقة؟ طرح هذا المشكل في ربيع 1818 عند عودة الأميرين المولى عمر والمولى علي من الديار المقدسة. ففي 22 ماي من هذه السنة توقف بجبل طارق المركب الإنجليزي “الطاج” قادما من الإسكندرية مقلا على متنه الأميرين المذكورين بالإضافة إلى ستين حاجا مغربيا من بينهم سبعة عشر امرأة. في اليوم عينه، التحق بطنجة قائدان مغربيان على متن زورق تابع للمركب المذكور بمهمة للتعرف على الموقف الذي تتخذه الهيئة القنصلية ساعة قدومه. وتعرضت الهيئة القنصلية بطنجة لضغوط كبيرة من أمين الجمارك وعامل طنجة، فقررت عدم الوقوف بكيفية صريحة في وجه المركب، ومما يرويه القنصل الفرنسي سوردو، فإن القناصل اضطروا لاتخاذ هذا الموقف “بناء على الأوامر الضمنية التي تلقاها الأمناء من صاحب الجلالة السلطان”. وبناء على ذلك، تمتع مركب الأميرين بحرية الدخول وعاد إلى جبل طارق بعد ثلاث ساعات من توقفه في طنجة. والذي يفهم من الروايات الأجنبية أن هذا المركب ترك في طنجة الجرثومة الأولى للطاعون. وأن يهوديا حمل أمتعة القائدين من المرسى إلى داخل المدينة، كان أول من أصيب بالوباء، وعن طريقه انتقلت العدوى إلى أحد أخواته في 23 ماي لتموت بعد يومين، وعليها الأعراض المميزة للطاعون.
ومهما يكن، فإن ركاب “الطاج” تمتعوا فورا بحرية الدخول لطنجة بمجرد وصولهم في 23 ماي، وهي الموجة الأولى من الحجاج التي تحدثت عنها المصادر المغربية وحملتها بكل وضوح مسؤولية إدخال الطاعون إلى المدينة. يقول الزياني: “وفي هذه السنة 1233، بلغنا أن ولدي أمير المؤمنين مولاي علي ومولاي عمر قدما من الحج ونزلا بمرسى طنجة، ووجه لهما والدهما مركبا من مراكب الإنجليز للإسكندرية حملهما وأصحابهما والحجاج والتجار منها، ولما نزلوا بطنجة كان ذلك سبب دخول الوباء للمغرب”.