دعنا من سيدي علال وهو بين يدي ربه، ولنبق مع الأحياء، هل يقبل الزعيم المراكشي، امحمد بوستة، بهذا السلوك الاستقلالي اليوم، وهو الزعيم الذي سبق له أن زهد في الوزارة الأولى بسبب وزير الداخلية إدريس البصري، وقال للملك الراحل الحسن الثاني: «يا مولاي، لا أستطيع أن أكون مع إدريس البصري في حكومة واحدة، سنقضي كل الوقت في شدّ لي نقطع ليك»، ولأنه عبر عن موقف جريء، عاقبه إدريس البصري في الانتخابات الموالية بإعطاء حزب الاستقلال نفس عدد مقاعد حزب الكومسير عرشان عقابا له على التجرؤ على المطالبة بإبعاد من صار جزءا من المقدسات في البلاد.
لكل زمن رجاله ونساؤه، وشباط الآن هو قائد حزب الاستقلال، وهو ينزله الآن من صالونات النخب الحضرية الفاسية والمراكشية، وفيلات البرجوازية البيضاوية وتقاليد الدارات العريقة، إلى الأحياء الشعبية وضواحي المدن والقرى، وهذه هي مقتضيات الديمقراطية الحزبية، عدديا على الأقل. والذين يلومون شباط على شعبويته وعلى تفريطه في ما تبقى من استقلالية القرار الحزبي وهيبة صورته، وعلى نوع القادة الذين أحاط عمدة فاس نفسه بهم، لا يدركون أن داء العطب قديم في حزب الاستقلال، وأن شباط ابن بار لمسار انحدار هذا الحزب، الذي دخل سوق البازار السياسي مبكرا، حتى قبل أن تلتحق به كتائب اليسار المهزوم أو المتعب بالسجون والمنافي. حزب الاستقلال ابن دار المخزن، وهذه حقيقة لا ينكرها القادة العارفون بخبايا الحزب وتاريخه غير المكتوب، لكنه حزب له تاريخ ورموز وبصمات في كتاب مغرب الاستعمار والاستقلال، وإذا ذهب الزين تبقى حروفه، كما يقول المثل المغربي.
المشكل ليس في أن يكون حزب الاستقلال حزبا محافظا ابن التقاليد المرعية لدار المخزن، وأن يدافع بالرأسمال الرمزي الوطني عن حصة أبنائه في السلطة والثروة، ولا مشكلة لديه في أن يتم ذلك فوق الطاولة أو تحتها. المشكلة ليست هنا، المشكلة أن الحزب، المحسوب تقليديا على الأحزاب الوطنية والديمقراطية، أصبح اليوم قاطرة للجمود السياسي، وللممارسة التقليدانية في الحقل الحزبي، عوض أن يكون محركا نحو الحداثة والليبرالية والتقدم. الجديد مع شباط اليوم أن الاستقلال لم يعد الحزب المحافظ الذي يجاري انغلاق المؤسسة الملكية ويشارك في الحكم لإصلاحه من الداخل، بل صار حزبا ولوبيا يضغط في اتجاه التراجع عن جوهر الإصلاحات الدستورية والقانونية التي قدمتها المؤسسة الملكية للتجاوب مع رياح الربيع المغربي.
الدعوة إلى التحكيم التي أطلقها الحزب كمخرج للأزمة الحكومية، هي دعوة إلى رجوع السلطان الشريف إلى وظيفة التحكيم بين القبائل المتناحرة، والتي لا تعرف كيف تتعايش ولا كيف تحل خلافاتها حول الماء والأرض والكلأ دون حروب وفتنة وقتل. إن التحكيم بين الأحزاب غير موجود في الدستور الجديد الذي يعرف شباط أن المحافظين، في أكثر من موقع، لم يعودوا يطيقونه. شباط وعوض أن يلعب اللعبة بقواعدها، وأن ينسحب من الحكومة إذا لم يكن يرى لبقائه فيها من فائدة، وآنذاك يذهب بنكيران للبحث عن أغلبية جديدة أو إلى انتخابات سابقة لأوانها، عوض أن ندخل إلى تمرين سياسي بقواعد ديمقراطية وتنزيل معقول للدستور. ترك شباط الحقل العصري للممارسة السياسية ورمى نفسه وحزبه إلى الحقل التقليداني طلبا للتحكيم الملكي، أي أنه رمى العار على القصر طالبا راغبا أن يجد له حلا مع غريمه بنكيران الذي تصلب في وجه مطالبه ظنا منه أن شباط مجرد شجرة تخفي غابة.
المذكرة التي قدمها شباط للملك في وجدة تشبه تلك التي تقدم بها عباس الفاسي إلى عبد الرحمان اليوسفي سنة 1999 عندما كان عباس خارج الوزارة، فيما حزبه يضع رجلا في الحكومة وأخرى في المعارضة. مطالب عامة ولغة إنشائية وبنود للمزايدة السياسية لا أكثر. ولما خرج شباط من ضيافة الملك قال لوسائل الإعلام: «حزب الاستقلال ومنذ 80 عاما وهو يعمل على تقوية الدولة والمؤسسات، وإنني أنتظر رد جلالته في القريب العاجل».
ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن شباط يعتبر أن الثمن الذي يقدمه اليوم مقابل التدخل لصالحه في القريب العاجل لدى رئيس الحكومة ليحصل على ما يريد… هو العمل على تقوية المؤسسات والدولة، أي أنه يرى في المسار الحالي الذي عرف دستورا جديدا متقدما على الدستور القديم، وانتخابات أقل تزويرا من سابقاتها، ووصول الحزب الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات إلى رئاسة الحكومة، أي ربط السلطة بصناديق الاقتراع، كل هذا بمثابة إضعاف للدولة وللمؤسسات، وأن شباط هو الذي سيوقف هذا المسار وسينقذ الدولة والمؤسسات من ماذا؟ من الديمقراطية عدوة الجمود والسلطوية والتحكم.