{ هل تعتقد أن الحراك الحالي في المنطقة العربية، وخاصة في مصر، يوضّح الرؤية حول ما شهدته المنطقة في العامين الماضيين، أم يزيد في تعقيدها؟
< أظن أنه يوضح المشهد إلى حد ما، وفي الوقت نفسه يظهر التعقيدات التي كانت منتظرة في المسلسل الطويل للخروج من السلطوية في اتجاه الديمقراطية. إن ما يجري اليوم يوضح، ويبين لنا الجوانب التي من الضروري أن تؤخذ بعين الاعتبار.
{ كيف قرأت خبر عزل محمد مرسي من طرف الجيش المصري وإعلان مرحلة انتقالية برئيس مؤقت؟
< ما حدث يجعلني أتشبث برأيي في ما يخص نجاعة قيام الجيش باحتلال الساحة بين الفريقين المتصارعين، لتجنب الأخطار الحقيقية التي كانت تحيط بأمن مصر، أما في ما يخص ما حدث بعد ذلك، فإنني أقول إنه، من وجهة نظر القانون، لا يمكن استبدال رئيس منتخب إلا بانتخابات وهذا ما لم يحصل. لكنني أقول أيضا، إنه كان على الرئيس والإخوان أخذ العبرة من الانتفاضة العارمة التي نادت برحيلهم، وكان على الرئيس أن يخطب في الجموع ويقدم استقالته بنفسه لترك الطريق لتكوين هيئات لتصحيح المسار تحت رعاية القوات المسلحة المكلفة بحفظ الأمن فقط. الانتفاضة دلّت على أن حكم الرئيس المنتخب وإن لم يفقد قانونيته، فإنه فقد مشروعيته.
{ هل تعتبر التحرك الشعبي الحالي عاديا، علما أن هذه المجتمعات نفسها عرفت تحركات شعبية قبل سنتين حملت الإسلاميين إلى السلطة، لتعود اليوم لتتظاهر ضدهم؟
< في نظري، هذا التغير في الموقف عادي وكان منتظرا، ذلك لأسباب منها كون شعوب المنطقة، سواء في المشرق أو المغرب الكبير، عرفت تحولات جذرية منذ أكثر من نصف قرن. فكان التحول الملحوظ في البنيات الأساسية وفي الثقافة، خاصة لدى الأجيال الشابة. ولما وقع الحراك الأول، اعتبرته آنذاك مرحلة أولى فقط. وعلى غرار ملاحظين آخرين، تيقّنت من أن الشعوب تحررت من الخوف، ومن الخضوع للممارسات الاستبدادية، وشعرت بقوتها وشعرت أيضا بتطلعاتها، كان ذلك ظاهرا خاصة في ما يخص الشعبين التونسي والمصري، لكن الملاحظة تنطبق على شعوب المنطقة بكاملها. لكنني في الحقيقة لم أكن أتوقع وقوع انتفاضة جديدة في مصر في ظرف وجيز جدا كما حصل اليوم.
{ ما الذي كان ينقص الحراك الأول لتتوقع عودته مجددا؟
< أظن أن الحراك المصري تداخلت الجهود فيه للإطاحة بالنظام الفاسد الموروث عن الناصرية التي شوهها أنور السادات وحسني مبارك. هذا علما أنني أدرك الجوانب الإيجابية التي قام بها النظام أيام حكم جمال عبد الناصر، رغم أنني لا أتفق مع الناصرية. وفي مرحلة الحراك، انفتح الناس على بعضهم البعض، فمثلا، انفتح الليبراليون والتقدميون على الشرائح الأخرى، بما فيها تلك التي تنهل مرجعيتها من تصورات خاصة للإسلام. لكن منظمة الإخوان المسلمين انتهزت الفرصة لأنها كانت أكثر تنظيما وعراقة من التيارات الأخرى. فهي تنظيم عتيد يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وقد تسرب خلال هذه المدة الطويلة إلى الخلايا الاجتماعية والمؤسساتية مثل التعليم والثقافة، ثم بعدها الاقتصاد. كان ظاهرا أن شرائح أخرى كبيرة شاركت في الحراك، لكنها، باستثناء تيارات معروفة، كانت تفتقر إلى التنظيم المحكم على شاكلة تنظيم الإخوان.
الكل يعلم كيف مرت المناقشات حول الدستور وكيف فرضت الأغلبية رأيها في غيبة المعارضة البرلمانية، ثم جاءت التعيينات في ميادين حيوية كالقضاء، ثم إحالة أطر الجيش على التقاعد. كنت أنتظر أن كل ذلك سيؤجج الشعور بالإحباط لدى الشرائح الأخرى.
{ هم يقولون إنهم لم يفعلوا كل هذا تحت تهديد السلاح أو في ظل الديكتاتورية، بل بعدما حصلوا على تزكية شعبية في انتخابات واستفتاءات؟
< أنا لا أناقش الأساس القانوني الذي جعل الرئيس مرسي والإخوان يصلون إلى سدة الحكم، فهو له شرعيته المنبثقة عن أول انتخابات حرة وشفافة في مصر، لكن الكل يعلم أنه كان بالإمكان مناقشة الدستور بطريقة أعمق، وفتح الباب للتعديلات التي اقترحتها المعارضة، لكن الإخوان تسرّعوا في تمرير الدستور الجديد دون مناقشة مستفيضة بواسطة أغلبيتهم. المشروعية الديمقراطية، كما تعلم، لا تعني دكتاتورية الأغلبية، فإذا مرت الأشياء في جو من الهيمنة المحبوكة، فإن المؤسسات الناتجة عن ذلك قد تكون قانونية لكنها تفقد المشروعية. وقد رأت شرائح واسعة أن الرئاسة وحزب الحرية والعدالة، الذي هو حزب الإخوان، لم يستوعب مفهوم الديمقراطية المؤسسة على القانون، والتي تفتح، في الآن نفسه، باب التوافق والتراضي لإشراك الشرائح الأخرى والمعارضة في القرارات المصيرية. فلا سبيل لالتحام الشعب إلا بتلك الطرق التي تنبني على التوافق والتراضي في المسائل المصيرية وتتعدى القانونية الصرفة. أظن أن هذه الهفوة من طرف الحكام الجدد ساهمت في شعور قوي بالإحباط لدى شرائح واسعة كما لاحظتم. وربما زاد في ذلك النمط التنظيمي للإخوان المسلمين، الذي يشبه كثيرا التنظيمات الشيوعية بخلاياها ومنطقها الأحادي والترجيحي لمصالح الحزب الضيقة على حساب تطلعات الشعب بمختلف مكوناته.
{ أين يتجلى ذلك؟
< تنظيم الإخوان المسلمين، منذ البداية، انتظم في شكل خلايا محكمة دخلت في تنظيمات توسّعت عموديا من المستوى الأدنى إلى الفروع ثم على الصعيد الوطني والمنطقة بأسرها والعالم. وقد اتسمت بالتأطير المحكم في ما يخص المسؤوليات الإدارية والتنظيمية والفكرية والإيديولوجية. كل هذه التنظيمات تلتقي في مؤسسة المرشد الأعلى الذي قد يناقش مع المسؤولين لكن رأيه في آخر المطاف لا يقبل الرد. ثم كان للمنظمة ذراع سري قوي يقوم بتنفيذ أوامر المنظمة سريا، سواء في التنظيمات أو المناوشات أو استعمال القوة والعنف حسب المواقف. وكان الذراع السري يتحرك في الظل.
طبعا، بعد وفاة المؤسس حسن البنا توسّع التنظيم وتفرّع، وكانت له علاقات اختلفت مع تعاقب المراحل وأنظمة الحكم، فعلاقتها بالضباط الأحرار معروفة، بما فيها العلاقة المتوترة بعد تنحي الجنرال نجيب وأخذ زمام الأمر من طرف عبد الناصر. وعرفت المنظمة ملاحقات وأنواعا من التنكيل والسجن والتصفية في حق كثير من مناضليها وأقطابها. ثم كانت فترات ساد فيها نوع من التفاهم الضمني مع النظام، كما وقع أيام السادات، والرجوع الموسمي إلى التوتر والاعتقالات الجماعية، فهذه التجربة القاسية، أنتجت أشكالا تنظيمية وممارسات تطبعها السرية والخفاء وشكل من المناورات والمفاوضات السرية والعلنية مع النظام الموروث عن الثورة الناصرية.
كثيرا ما يلح الإخوان على محنتهم في ظل النظام المصري القائم منذ الخمسينات، وهذا صحيح، لكنهم يهملون كون كثير من المناضلين المنتمين إلى تيارات تحررية ليبرالية ومثقفة أخرى قاسموهم المنافي والسجون.
{ ماذا عن الدور الخارجي في ما يقع الآن في مصر، أليس في الموجة الجديدة من الحراك ما يتقاطع مع قوى خارجية لا تنظر بعين الرضا إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة؟
< لما يأخذ الشعب زمام المبادرة فإن هذا هو الأهم. العوامل الخارجية قوية ومؤثرة، لكننا ولأول مرة منذ القضاء على الاستعمار، وثورات الخمسينات، أخذ الشعب زمام المبادرة في تونس وفي مصر وفي بلدان أخرى، وطبعا، لا يمكن أن نتصور أن القوى الخارجية ستكتفي بالتفرج مكتوفة الأيدي، نظرا لمصالحها واستراتيجياتها. في مقدمة هذه القوى إسرائيل والولايات المتحدة، لكن أيضا الأنظمة الاستبدادية العربية. لكن حين يأخذ الشعب المبادرة فإن الأمر يصبح أساسا في يد الشعب. من المعروف أن الولايات المتحدة مثلا كانت حذرة، لكنها لم ترفض وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة، ويظهر أنها قامت بمفاوضة الجيش، وهذا طبيعي لأن لها مصالحها. ومع مرور الوقت ظهر ما يمكن أن نسميه بالواقعية السياسية من الطرفين، أي القوى المؤثرة من جانب والإخوان وحزبهم من جانب آخر.
{ أين يتجلى ذلك؟
< إذا درست خطاباتهم وسياساتهم لن تجد سياسة جذرية ضد مصالح أمريكا، وفي ما يخص فلسطين، فإن الحكومة الجديدة كان هدفها الأول اجتناب تنامي قوى متطرفة في صحراء سيناء…
{ لكنها خففت الحصار عن قطاع عزة وفتحت المعابر معها أيضا؟
< صحيح، لكنها لم تدخل في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
{ ألم يكن التعاطي الأمريكي مع الحراك العربي تكتيكيا في البداية، حيث اضطرت واشنطن إلى القبول بالإسلاميين وهي الآن بصدد مراجعة هذا الخيار؟
< ربما هذا صحيح في خطوطه العريضة، لكنني لا أعرف هل كان أحد متيقنا من نجاعة التفاهم مع من يسمون بالإسلاميين. الحراك غيّر كل شيء وساد في غماره الترقب والحذر، وبالطبع لأمريكا علاقات قديمة مع تنظيمات الإسلام السياسي المختلفة، وأمريكا قوة عظمى تحاول محاورة جميع القوى السياسية.
{ هل تعتقد أن تزامن ما يقع حاليا في مصر مع ما وقع قبل أسابيع من تحرك مفاجئ ضد حكومة أردوغان، وما تواجهه حكومة حزب النهضة في تونس، والجمود الذي باتت تعيشه حكومة الإسلاميين في المغرب، كل ذلك مجرد صدفة؟
< لا أظن أنها صدفة، لأن المنطقة تحرّكت بقوة، وليس هناك كثير من الصدفة في تزامن كل هذه الأحداث. وما يقع في تونس له صدى في مصر والمغرب، وما يقع في بلد من حجم مصر له تأثير قوي على البلدان الأخرى. أما تركيا فهي حالة خاصة، لأن تجربتها بدأت قبل عشرات السنين، وكانت في اتجاه الديمقراطية والقضاء على سلطة العسكر، وذلك في إطار دينامية صاعدة آنذاك تروم إعادة الاعتبار إلى ثقافة الأتراك الإسلامية وإلى دين الأغلبية الساحقة. الفرق بينها وبين ما يقع في المجتمعات العربية، إجمالا، هو أن هذه القوى التي اتخذت مرجعية إسلامية كانت لها الكفاءات والتقنيات، وكان لها التكوين الضروري وعلى درجة عالية. وكيفما كانت مكانة الدين في تكوين الحزب الحاكم وتطوره، فإنه قدّر الكفاءات تقديرا ظاهرا ومنحها صلاحيتها. على سبيل المثال، نهج سياسة اقتصادية قفزت بتركيا إلى مستوى من التنمية لا يضاهيه أي بلد عربي. لكن هناك تيارات أخرى تتمسّك بقيم وبرامج ضمن مفهوم عام للحرية على درجة أكبر، وهناك جهات أخرى قوية تطمح إلى العودة إلى السلطة، كل هذا يغذي الصراع السياسي. لكن لابد من الاعتراف بأن للحزب الحاكم الحنكة الفكرية والمهارة الاجتماعية الكافية لإيجاد الحلول والتوصل إلى توافقات…
{ أفهم من حديثك أن التيارات الإسلامية العربية تفتقر إلى تلك العوامل؟
< أنا أنوه بكفاءات حزب العدالة والتنمية التركي، ولا أحكم بعدم توفرها في التنظيمات المسماة بالإسلامية في منطقتنا. وأسجل أن تجربة تونس هي ربما الأقرب إلى التجربة التركية، حيث كانت فيها إنجازات وسياسات تحديثية، وأسجل كذلك أن في أوساط الإسلام السياسي قدرة على التحاور أكبر بالمقارنة مع مجتمعات أخرى. لكن، لا يمكن أن نسكت على المخاطر الموجودة حتى في تونس، والجميع يدرك، مثلا، خطورة الجريمة الشنعاء التي ذهب ضحيتها المناضل الكبير شكري بلعيد. وما يحدث في مصر الآن قد يساعد على أخذ العبرة وتجنب بعض الأخطار، ذلك ما أتمناه. وتذكّر أن الثورة بدأت في تونس، ورغم أن الجماهير اهتمت أكثر بمصر، فإن الفضل الأول يعود إلى تونس والشعب التونسي، قبل أن ينتقل الأمر إلى مصر.
ومعلوم أن ما يقع في مصر يكون له تأثير أقوى في جميع بلدان المنطقة، نظرا لمكانتها التاريخية وحجمها. وكما كانت البداية في تونس ثم انعكست على مصر، فإني أظن اليوم أن الانتفاضة المصرية ستنعكس على تونس وغيرها، وهي بمثابة ثورة ثانية أو حركة تصحيح جماهيرية للثورة في مصر، سيكون لها وقع قوي لا محالة.
{ ألا يعبر ما يقع الآن عن مشكلة هوية وبحث عن إعادة رسم ملامح هذه الهوية؟
< ربما، لكن علينا أن ننتبه إلى أن بعض تنظيمات الإسلام السياسي اعتبرت أن الأحداث الجارية تمثل صحوة إسلامية. أنا لا أجادل في كون المسلمين شعروا بقوتهم واعتزازهم بدينهم وموروثهم الحضاري، وتخلصوا من العقد النفسية تجاه المسار الأوربي والمسارات الأخرى، وتخلصوا من الخوف وشعروا بآفاق الانعتاق. هذا أمر أباركه جدا، لكن، يجب أن نفرّق بين صحوة الشعب ودينه الإسلامي في الغالبية، ومفهوم الصحوة الإسلامية عند تيارات الإسلام السياسي. وقد قلت في مقال مطول نشر في هذه الجريدة إن شعب المغرب المسلم في غالبيته يرجع أولا، وقبل كل شيء، إلى تجربته ولا يعتمد بالضرورة أفكارا وممارسات تنظيمات وتيارات الإسلام السياسي، أكانت وسطية أم سلفية أم وهابية أو غيرها، ومعروف أن التوجهات الصوفية منتشرة عندنا، وأن شرائح كبيرة من المجتمع تنخرط في روحانياتها. وكما قلت، فإن الشعوب تغيّرت كثيرا، وسوف تحكم على الأحزاب، كيفما كانت مرجعيتها، حسب إنجازاتها، وليس بالضرورة حسب تخيلات شيوخها.
{ سبق للقرضاوي أن تحدّث بمنطق التناوب، وقال إن التيارات العلمانية والليبرالية أخذت نصيبها من السلطة، وإن دور الإسلاميين جاء، ما رأيك في ذلك؟
< علينا أن نتفق حول مفهوم التناوب أولا، فالقرضاوي يقول، مثلا، إن لكل زمان دولة ورجالا، وإن الليبراليين والعلمانيين أخذوا زمانهم، «وهذا هو زماننا، الإسلاميون تم إقصاؤهم وسجنوا وعذبوا، والآن جاء دورهم…». هذا الشيخ لا يتحدث عن التناوب بل يتحدث عن دولة الإسلاميين، ويقول «جاء زماننا» ولا يذكر زمانا تتناوب القوى السياسية فيه على الحكم. هذا يدفعني إلى الاعتقاد بأنه ربما لا يفكر جديا في التناوب الديمقراطي، أو على الأقل لا تحتل المسألة ذهنه كثيرا، بل يرسم أزمنة كما كان مفكرون آخرون يرسمون أزمنة ومراحل للاقتصاد. إني أتوجس من هذه الأفكار، وكل الليبراليين لابد من أن يتعاملوا مع مثل هذه التنبؤات بحذر. ثم إن الأمر يحمل مغالطات تاريخية: فالليبرالية مثلا، حكمت في مصر لفترة قصيرة وفي ظل بقايا الإقطاع وهيمنة الإنجليز. لهذا لا يصح أن نقول إنه كان زمان الليبرالية بالمعنى العملي. ثم متى كانت العلمانية تحكم في دول المنطقة؟ والجميع يعلم أن علمانية عبد الناصر وعلمانية النظام المنحدر من ثورته كما علمانية البعث جاءت في ظل التسلط ولم تكن علمانية ديمقراطية. ولفظ العلمانية نفسه، في اعتقادي، لفظ يشوبه الالتباس، وأنا شخصيا أفضل مفهوم التمايز المؤسساتي مقرونا بالتفاهم بين الميدان السياسي والميدان الديني، وهو ما يتضمنه مفهوم .SECULARISME
{ هل تعتقد أن ما يحصل الآن في مصر سيكون له انعكاس مباشر على المغرب؟
< إذا كان الانعكاس بمعنى قيام حركة في الشهر المقبل مشابهة للحركة المصرية مثلا، فالجواب هو لا، لكن الانعكاس موجود ودائم وملموس، ووتيرة تطوره شيء آخر. الانتفاضة الجارية في مصر الآن من شأنها أن توضح الموقف في المغرب وفي بلدان أخرى، وتوضح الطريق التي يمكن أن تلِجها الشرائح التي تحس بالإحباط وتتضرر من الوضع الحالي، وتصبو إلى تغيير حقيقي في نظم الحكم والإنتاج والتربية…
{ هل تعتقد أن المغرب، على غرار مصر، مقبل على تصحيح معين؟
< هو لا محالة مقبل على حراك جديد، لا أقول إنه تصحيح لسبب واحد هو أنه لم تقع ثورة في المغرب مثلما وقع في تونس ومصر. لكن الحراك آت وسيكون بزخم أكبر من الحراك الأول.
{ سيكون الفاعل الإسلامي هو الأقوى مرة أخرى؟
< الأشياء في طريقها للتوضيح. وأنا لا أروم التصنيفات القطعية، فالشعب في غالبيته مسلم، وإسلامه ليس هو بالضرورة إسلام العدالة والتنمية أو العدل والإحسان أو السلفيين أو غيرهم. وهو ليس عدوا للأوساط الدعوية، لكنه ليس بالضرورة مساندا لها، والناس يحتكمون الآن إلى التجارب الميدانية، وهي المعيار الحاكم في المستقبل. ومن الطبيعي أن تكون هناك تيارات تستمد مرجعيتها من الإسلام، لكن هل جميع مسلمي المغرب يتجهون إلى أحزاب إسلامية؟ لا أظن. الناس مسلمون في غالبيتهم، وهناك أوساط لها معتقدات وفلسفات أخرى، وهي موجودة وفاعلة ويحب احترامها. أما الميول السياسية فلا يتحكم فيها بالضرورة وفي الأغلبية الحس الديني. أعود لألح على التغير الجذري الذي وقع في مجتمعاتنا، وأن الانتخابات الشفافة نسبيا في تونس ومصر والمغرب لم تعط الأغلبية المطلقة لأحزاب الإسلام السياسي. لذلك فأي حزب حصل على أغلبية سيكون مجبرا على الدخول في تحالفات، وبالضرورة في توافقات ومناقشات جدية وبحسن نية. وإذا لم يستوعبوا ذلك سيقع ما وقع في مصر، فالمجتمعات تغيرت، ولا سبيل لهيمنة مطلقة لأحزاب الإسلام السياسي من الآن فصاعدا.
{ ما الذي كبح الحراك الذي عرفه المغرب؟ هل العنصر الإسلامي المتمثل في حزب العدالة والتنمية، أم فاعل آخر هو السلطة المهيمنة؟
< كانت هناك عوامل كثيرة، منها دور حزب العدالة والتنمية، رغم أن هذا الأخير عرف انقساما حول هذا الموضوع لأسباب يصعب حصرها. ثم كان هناك عامل تخلي جماعة العدل والإحسان عن الحراك بسبب سوء تفاهمات في نقاشات حول الحريات ونظم الحكم… ولم تطل التجربة حتى يتبلور شيء جدي في النقاشات وتوسع الحراك. كما أن الحركة افتقرت إلى التنظيم والزعامات القوية، وكذلك الآليات التي تحرك المظاهرات السلمية بشكل يشل حركة النظام. وفي هذا الجو استبق النظام الحراك، وأجهضه.
{ الدور الذي لعبه حزب العدالة والتنمية لإخماد الحراك، هل هو سبب معاناته اليوم داخل الحكومة؟ أي أنه يدفع ثمن اختياره؟
< لحزب العدالة والتنمية سياسة في هذا المجال، تشبه سياسة أحزاب قديمة، تسمى هذه السياسة بالفرنسية entrisme، أي الدخولية، أي التغيير من الداخل حسب أهداف الحزب. ويبدو أن المحاور الأساسية هنا ربما كانت هي التركيز على الدعاية في مجال الأخلاق المرتبطة بالدين، ثم على محاربة الفساد خاصة في دواليب الدولة، وثالثا التنمية. لكن في ظل برنامج محافظ جدا، يروم الهيمنة على ممارسات الشعب بأكمله، فهل ستنجح الدخولية؟
{ لم تظهر لك بعد مؤشرات الإجابة؟
< أنا متحفظ على الحكم على تجربة لم تدم أكثر من سنة وبضعة أشهر.
{ هل تعتقد أن حزب العدالة والتنمية لديه مقومات النجاح؟
< هذا سؤال ملموس ويمكن الإجابة عنه، وأظن أنني لم أر كفاءات كبيرة، ولا برنامجا اقتصاديا محكما ومعقلنا. في المقابل، لابد من التذكير بأن القطاعات الحيوية الأساسية في الاقتصاد ومجالات أخرى ليست في الحقيقة في متناول الحزب وحكمه…
{ هي بيد من؟
< بيد «مّاليها»، ولا فائدة في التكرار. لكن هناك شرائح كبيرة تتعامل مع هذه الدخولية بحذر كبير. وهذه الشرائح لا تتفق مع ما يعتبره العدالة والتنمية، أو بعض أوساطه، أولويات. فمثلا، ترى المدير السابق لجريدة «التجديد» همه الأكبر في وزارة الاتصال هو تغيير برنامج الأخبار، وإدخال أكبر قسط ممكن من المواد الدينية في الوسائل السمعية البصرية. أنا لست ضد ذلك، لكن هذا يكشف همه الأساس، بدل تطوير الوزارة وانتقاء الموظفين الأكفاء ولو بمشارب مغايرة. ثم ترى آخرين يتحدثون عن الفن النظيف، والأدهى أنك إن تصفحت جريدة التجديد لا تجد في إخراجها جمالية فنية، لا في الطبع ولا الصور وفي في غيرهما، ثم يتبجحون بـ«الفن النقي»، فيقصدون به الفن الذي يتجنب العري، وكل جهودهم تصب في هذا الاتجاه، إلى درجة أننا نشعر بأنهم مسكونون بهذا الهاجس بشكل يوحي بأن هذا الهم يفوق هموما خطيرة جدا، كالنهوض بمستوى الاقتصاد والتعليم والخدمات…
{ تقصد أن نظرتهم قاصرة إلى الفن؟
< عندما ترى بعض دعاتهم يجلسون في قاعات اجتماعات وندوات تحمل نحوتا رديئة جدا على الجبس وغيره، لا ترقى إلى مستوى الفنون في أوساط أخرى أو في فترات ماضية كالستينات والسبعينات، فبالأحرى تلك التي عرفها الشعب في عهد المرينيين والموحدين والسعديين وغيرهم. والفن كالسياسة، ميدان شائك وجب تثقيف جميع أفراد المجتمع فيه، لاكتساب الذوق وآليات الحكم على الظواهر الفنية. وما قلته من قبل من أن مجتمعاتنا عرفت تحولات جذرية قد ينطبق على هذه الجوانب. فنحن اليوم في زمن لا يقبل فيه الشباب الكفء أن يستعملوا كتقنيين فقط، وتفرض عليهم الوصاية الدينية، كما هو الحال في إيران، بل يتطلعون إلى برامج متكاملة ومفهومة. فمثلا، وبعيدا عن الفن، محاربة الفساد شيء وجيه نصفق له، ومحاربة الريع والمحسوبية في ما يخص مقالع الرمال والكريمات، أيضا شيء جدي ويوجب التقدير، لكن في المقابل، هل هناك برنامج متكامل معلن عنه يناقش مع المختصين وعامة الشعب ويخص ميدان إصلاح القضاء أو قطاع النقل؟ وهل تستعمل الكفاءات الكبيرة في محلها بعيدا عن الانتماءات السياسية والإيديولوجية والميول الدينية وغيرها.
{ قد لا يكون السبب في تعثر الحكومة الحالية لأسباب ذاتية للحزب الذي يقودها وضعف كفاءته، بل قد يكون، كما يدعون، لتنامي قوتهم السياسية التي باتت تزعج؟
< فليبيّنوا هذه القوة، لماذا يتهاونون؟ فليضغطوا على الوسط السياسي، بما في ذلك المحيط الملكي، إن كانت لهم قوة. فالذي له قوة يمكنه أن يضغط بالطرق السلمية ليحقق أهدافه.
{ هم يقولون إنهم كلما حاولوا عرض مشروع إصلاح من هذا القبيل في المقاصة والضرائب والتقاعد، تمت عرقلتهم؟
< العراقيل موجودة ولا مناقشة فيها، لكن هناك البرامج، فهل لهم برنامج في ما يخص مسطرة توزيع الدعم المباشر على الطبقات المعوزة؟
{ طرحوا الفكرة للنقاش وقالوا إنهم سيعدون هذه المسطرة بشكل جماعي، لكن سرعان ما خرجت قوى لمحاولة إقبار المشروع؟
< إذا كانت لديهم أطر ذات كفاءة لماذا لم ينشروا برنامجا متكاملا، ويعرضوه على الشعب، ويقولوا: هذا برنامجنا لكن شركاءنا لا يقبلون مناقشته. وحينها يمكنهم مناشدة الشعب دعم هذا البرنامج، أنا لم أر ذلك. صحيح أن اللوبيات هي من يستفيد بالدرجة الأولى من صندوق المقاصة، لكن أين هو البديل الملموس؟ وأراني متخوفا من أن تسيّس عملية الدعم المباشر. وحتى الآن ليس هناك جواب عن كيفية قطع الطريق أمام تسييسها لفائدة الحزب الحاكم.
هل عرض هذا الحزب برنامجا جديدا لتنمية الزراعة؟ هل هناك مشروع للتصنيع؟ هل هناك برنامج للتعليم التقني المعقلن؟ علما أن التعليم هو أول قطاع تأدلج كثيرا منذ السبعينات، خاصة من طرف قوى الإسلام السياسي. وعلى سبيل أمثال، سأذكر لك أنه حتى قبل السبعينات، وفي الستينات تحديدا، كان كثير من أساتذتنا في الثانوي، ممن تكونوا في مصر وسوريا على الخصوص، يعرضون علينا برامج وأفكار الإخوان أو الفكر البعثي، بدل الحصص المقررة للنحو واللغة العربية. وطبعا لا أروم هنا إخفاء جهد الأساتذة الفرنسيين في تحبيب اللغة الفرنسية وثقافتها إلينا.
{ يقولون: ليست لنا الأغلبية المطلقة حتى نطبق برنامجنا، بل نحن نعمل داخل تحالف؟
< إذا كنت متحالفا فلك أن تقنع حلفاءك أو تغيّر الأغلبية وتبحث عن شركاء تتوافق معهم مسبقا حول البرامج. وإذا كنت تشرك الناس فقط لتكوين أغلبية، فهذه مجرد سياسة بالمعنى الضيق وغير المشرف.
{ هم يعتبرون أن المغرب بات يعرف فرزا واضحا بين قوتين، قوة أولى محافظة ومترددة، وثانية تسعى إلى الإصلاح والتغيير، ويصنفون أنفسهم ضمن الفئة الثانية؟
< ربما كانت لهم معطيات لا تتوفر لدي، لكنني أتساءل: هل هناك تردد من جانب القوى الأخرى فقط؟ أليس هناك تردد من جانبهم؟ هل هناك حسابات سياسوية من طرف خصومهم فقط؟ وإذا كان هناك انقسام عمودي بلغ قمة الهرم، فما معنى القول: نحن مع الملك في الإصلاح ضد قوى أخرى؟
{ برأيك، طبيعة المؤسسة الملكية تجعلها قابلة أكثر للميل نحو ضفة التغيير والإصلاح أم باتجاه المحافظة والتردد؟
< أظن أن السؤال يحتمل بسهولة الجوابين معا. والممارسة اليومية للحكم واتخاذ القرار، في الاقتصاد والتعليم وغيرهما، هي اليوم معروفة بالملموس. ولا أرى في الساحة استعدادا كبيرا للتغيير.
{ تعتقد أن التجربة المغربية وقعت في نفس أخطاء الإخوان المسلمين في مصر؟
< أظن أنه في الميادين الاقتصادية هناك استعداد لقدر من التوافقات، لكن في المسائل الأدبية والعقائدية لا أرى استعدادا للتوافق. بالعكس، أرى تظاهرا يوميا بالتدين، وإشارات للملبس والمأكل والمشرب، لا حاجة لنا بها، وربما تظهر عند البعض في غالب الأحيان لكسب الشعبية فقط. في المقابل، أنا سئمت نعت الصحافة المنتمين إلى العدالة والتنمية بالملتحين. هذا قدح، فاللحية أو الحلق شيء من اختيار الناس، ومن أراد أن يتحدث في السياسة فليتحدث عن البرنامج والميول الأدبية والأخلاقية، وليس عن الجلباب والشعر واللحية والخمار… كما أناشد الصحافة أن تقلل من إطلاق صفة «الشيخ» على كل من حفظ بعض القرآن، وتمكن من الأبجدية. الشيوخ اليوم يفرخون بالمئات في ظرف وجيز في جامعات معروفة في الخليج والأردن وداخل المغرب نفسه. وهناك بعض الألقاب التي لا تراعي المعطيات، فتلقيب أحمد الريسوني بالفقيه المقاصدي ربما يكون صحيحا، لكن علال الفاسي كان فقيها مقاصديا قبله ولا يشك في علمه احد، وكذلك بوشعيب الدكالي ومولاي العربي العلوي، وآخرين من معاصري علال الفاسي الذين هم منبع المقاصدية، وما عدا ذلك ربما كان سقوطا في الدعاية؟
{ في المغرب معطى يميزه عن باقي الدول العربية في علاقة بالإسلاميين، هو وجود فاعل ديني رسمي هو الملك كأمير للمؤمنين، هل يضعف هذا المعطى الإسلاميين، أم بالعكس يقويهم بإعطاء الشرعية لاستعمال الدين في السياسة؟
< أظن أن هذا يخلق منافسة، وفي الوقت نفسه، يشجع على ولوج هذا الميدان، ويمنح الشرعية للمؤسسة الملكية للتدخل في ممارستهم. والدليل الأخير مشكلة دور القرآن في مراكش. فإمارة المؤمنين تمنح الملكية شرعية تخولها تحديث المجتمع أو الاتجاه نحو التشدد، فنهج أسلوب التفتح والحداثة، سيكون له تأثير فاعل، وسيتجه المجتمع إلى طريق الحداثة والانفتاح، وفي المقابل فإن تبني نهج متشدد سيؤدي إلى نشره بسطه إلى المجتمع.
{ هناك من يرى أن شرعية الإسلاميين اليوم تتمثل في كونهم البديل الوحيد الذي وجدته الجماهير بعد إسقاطها الأنظمة السابقة؟ هل للتيارات الأخرى بدائل أخرى تقدمها لهذه الشعوب؟
< أظن أن تنظيم الإخوان المسلمين جاء ببرنامج معين، بينما باقي القوى طالبت ببديل مشترك متوافق عليه، وما وقع هو أن النظام الإخواني لم يقبل بالعمل المشترك، علما أن البديل الوحيد هو التوافق الديمقراطي وليس مشروعا آخر يقصي الإسلاميين. البديل هو أخذ الكفاءات في التعيينات وتجنب الحزبية الضيقة والإيديولوجية، في تحقيق البرامج واستيعاب الكفاءات الموجودة في الشعب بأكمله، وإيجاد الحلول للمشاكل التي تعانيها جميع الشرائح، أي الحلول التي تضمن المصالح العليا للمجتمع.
{ هل تعتقد أن ما يفعله العسكر اليوم أمر صحي؟ هل يمكن أن تأتي الديمقراطية على يد الجيش؟
< أظن أن الجيش المصري احتل المساحة بين القوتين المتطاحنتين لتجنب المواجهة العنيفة. وأذكرك بأن الجيش التونسي لعب دورا مماثلا عند اندلاع الثورة التونسية، دون أن يقصي الإسلاميين. هذا الدور يمكن تسميته بالحياد الإيجابي، وهو ما وقع في مصر في ظل الظروف المتردية والخطيرة التي كان بالإمكان أن تنزلق إلى حرب أهلية. وللإخوان، على عكس التيارات الأخرى، شبه ميليشيات هدّدت وداهمت في مناسبات عديدة المناضلين المتظاهرين، وإذا وقفت القوات المسلحة بين الفريقين فهذا منطقي. وإذا كان هناك احتمال وقوع حرب أهلية فمن الطبيعي أن يتدخل الجيش في هذه الحدود، حتى يتاح الوقت للمتطاحنين لحل خلافهم. لكنني لا أظن أن الديمقراطية تأتي من الجيش، بل إن مكانه هو الثكنات.
{ كيف قرأت المهلة التي منحها الجيش المصري لمحمد مرسي بمجرد خروج المظاهرات ضده؟
< أنا قرأت في عدة قصاصات أن المهلة لم توجه لمرسي فقط بل لجميع الفرقاء السياسيين حتى يتوصلوا إلى اتفاق. مرسي لم يكن هو المعني الوحيد بالمهلة، لكن من الطبيعي أن يكون هو أكثر من شعر بضغط هذه المهلة لأنه هو الرئيس، وهو من وجّهت إليه المطالب.
غليان كبير في أحشاء المغرب يمهّد لحراك جديد والجزائر معرّضة للانفجار
{ هل تصح المقارنة بين ما يقع في باقي الدول العربي، مثل تونس ومصر وليبيا، وبين ما يحدث في المغرب؟
< أظن أن المقارنة دائما مفيدة شريطة أن تكون مقارنة للتشابهات كما للاختلافات. أعتقد أن التحولات العميقة في مصر وتونس قديمة العهد وسابقة لما عرفه المغرب. ففي مصر، مثلا، هناك أشواط ثقافية تم قطعها وأصبح المجتمع مجتمع كتل ديمغرافية كبيرة، بينما المغرب، مثلا، يتدرج نحو ذلك منذ عقود، لكن مازالت له بنيات أخرى، على شكل شبكات أو جهويات…
{ شبكات مصالح؟
< شبكات مصالح وشبكات إثنية وعشائرية وغيرها، وهذا مختلف عن الوضع في مصر، رغم أني أدرك أن لمصر بعض البنيات المشابهة لكنها أصبحت شبه متجاوزة، خاصة في الأجواء الثورية والانتفاضية. هذا لا ينفي أن المجتمع المغربي، بدوره، عرف تحولات أساسية، كما قلت مرارا، لكن ربما أن الشعور بالقوة لدى الشرائح الواسعة في البلاد في طريق التنامي ولم يصل بعد إلى درجة التكامل، وهناك طبقات اجتماعية قوية، لكنها لم تشعر بعد بقوتها، وقد جربتها بعض الشيء في الحراك الأخير، لكنه لم يدم طويلا ووقعت أخطاء…
{ مثل ماذا؟
< مثل إهمال التنظيم والعمل اليومي لجمع الناس وجمع التوقيعات وفتح النقاشات، ومثل عدم إفراز زعامات، التي هي موجودة لكن ذلك لم يتبلور.
{ ما هي الطبقات التي تتحدث عنها؟
< هي شرائح كبيرة من الطبقة المتوسطة وتحت المتوسطة، وقوة هائلة من الشباب، وشعور شعبي عارم. فقسم من تلك القوى يميل اليوم نحو تيارات الإسلام السياسي، لكن شرائح كبيرة مازالت تبحث عن مسارها. فحينما نقرأ أن عشرات المغاربة يتظاهرون يوميا في جميع أنحاء البلاد: مثلا ضد هذه الشركة أو تلك، أو ظل ذلك المستشفى أو المرفق العمومي أو في وجه الحكومة في العاصمة من طرف العاطلين وغيرهم، أو للتنديد بالاعتقالات أو لإحياء ذكرى ضحايا الحراك والقمع، والأمثلة لا تحصى، فهذا يعبر عن غليان عميق في أحشاء المجتمع. وسوف تتلاقى تلك الديناميات لا محالة في تيارات وجبهات موسعة، لكن ليس بنفس وتيرة وسرعة ما يقع في مصر وتونس، ويبقى اللغز الكبير بالنسبة لي هو الجزائر.
{ كيف؟ هناك من يفسر الحالة الجزائرية بالتجربة الصعبة التي مرت منها من خلال الحرب الأهلية التي دامت عقدا كاملا؟
< هناك شعور بأن المجتمع متعب، وهذا صحيح، لكنني أظن أن الجزائر هي المجتمع الذي عرف أكبر تحول من جراء التخريب الاستعماري الممنهج والطويل، وهي، في الآن نفسه، المجتمع المحبط بشكل عميق قل نظيره. وأظن أنها مسألة وقت فقط، وإذا وقع الانفجار فسيكون قويا جدا وسيزعزع المنطقة…
{ سينعكس على المغرب؟
< إذا قلت إنه سيزعزع المنطقة، فأكيد أنني أقصد انعكاسه على المغرب أيضا.