. قلت للحطاب ماذا لو نفد الحطب؟ قال: سينفد الحطب، وسيدخل المرض كما حدث مرات عديدة، واختلس في إحداها ابنتي الرضيعة، لكننا نريد أن نتأخر كثيرا هنا، وأن يطول الدفء ونختلس في ضيافة الحطب الحياة، هكذا عشنا لصوصا نسرق عمرنا، الموت لا يبذل جهدا كبيرا هنا، الموت دب كسول يشحذ أنيابه على مهل ويشرب أنفاسنا كل يوم. نسير إليه ونعينه في غرس أنيابه في لحمنا الأزرق. إننا ندخله كحطب ليستشعر الدفء، كرماء نحن مع الموت، أما الحياة فهي طارئ، لنقل إنها ومضات لحياة الموت.
هكذا يكتب الجبل يومياته في قُرانا المغربية النائية، هكذا يعيش الحطابون والفلاحون الصغار والمتشبثون بالعطاء الشحيح للطبيعة القاسية، هكذا يعيشون يومهم البخيل.
يتحدث الناس في الأطلس عن البرد كعنف مخزني، كقهر اجتماعي، إنهم لا يتحدثون عنه كعنف طبيعي أو إلهي، لأنهم لا يحسنون الظن بالدولة، الدولة التي حولت درس الجغرافيا إلى خريطة لتوزيع العقاب، فتحولت الحياة إلى رمية نرد، الرمية الخاطئة المفلسة هي التي تجعل حياتك تنبت في جبل، تحولت رمزيته من دلالة الشموخ إلى دلالة الموت. تعاطي الدولة مع الجغرافيا تعاط انتهازي يتآكل فيه مفهوم المواطنة، يتحول التنوع الجغرافي إلى مقامات اجتماعية، وأحيانا يتشكل عند سكان الجبل إحساس بأنهم منفيون داخل وطنهم، متروكون لقدرهم بدعوى أن الجغرافيا لم ترحمهم لحظة توزيع خيرات الطبيعة وإكراميات المكان.
أذكر أن أحد القيمين على حفل الموسيقي العالمي جون ميشيل جار بزاكورة قال لي: «سيعرف المسؤولون هنا أن الكثبان تصلح لشيء آخر لا يعرفونه». وظف الموسيقي العالمي الرمال كخلفية مشهدية بديعة، بإمكانات ضخمة حولت زاكورة إلى قطعة فنية جنونية الجمال. هل نحتاج إذن لزيارة خبراء يعلموننا ماذا نصنع بالجبل، وكيف ندمجه في عقلنا الاستثماري ومخططاتنا التنموية؟ وكيف نقدح شرارة أفكار مبتكرة تعيد الجبل إلى الجغرافيا السوية؟
في ثقافة الرموز يرتبط الجبل بالعلو والارتفاع بالشموخ والكبرياء، بأغاني أعالي الجبال’ حيث التنادي نحو الجمال، لكن الدولة تصر على أن تجعله اليد الدنيا، اليد التي تمرغ في وحل الحاجة، في سياق يجعل من المستقبل نفسه نوعا من الصدقة التي ينعم بها المنعمون. حتى إذا استوطن الشتاء وأشهر الموت الأزرق منجله في وجه الرقاب النحيلة المنهكة، انطلق مهرجان الصدقات واستشرت ثقافة الإرساليات الإطعامية، وأُسقطت فوق المنهكين أغطية وأغذية وأدوية، والتُقطت صور مع تلك الكائنات الهشة، تلك التي تدفع ضريبة صداقتها للجبل وقيمه ورمزيته.
أهل الجبل الذين زرعوا الشوك في حلق المستعمر ها هم يشبون في وطن يجازيهم بالشوك، شوك النكران، شوك الجغرافيا المأزومة.
في مغرب اليوم يجري طرح جغرافيا تصنيفية، جغرافيا تروج لمصطلح المغرب العميق، مغرب الحفر، مغرب يربك التواصل، مغرب مواطنين يقدمون كأنهم أيتام، المغرب المتضامَن معه، مغرب اختبار الكاتارسيس، المغرب الذي سلب الأطلس روحه، الأطلس صارت الحياة فيه سفحا، واستحالت القمة مجازا مخصيا.
من يعتبر هذا مغربا عميقا فليكشف لنا عن مغرب السطح، مغرب الياقات المكوية بعناية، مغرب الواجهة والماكيت، هذا النمط من التفكير وهذا الضرب من التصنيف يعيق صلتنا بالجغرافيا السوية، ويقدم مغربا بسرعتين. فكيف تتوحد المؤسسة في مغربين أحدهما يولي ظهره للآخر؟
التنوع غنى والتمييز فقر، وأهل الجبل يحاربون المن فالجبل منيع، وأهله متعففون، إنهم أهل القمم، أصحاب أغاني تماوايت التي لا تلقى إلا على صهوات الغيم والريح.