قبل 60 سنة من اليوم أقدم نظام جمال عبد الناصر على السياسة نفسها، وحل جماعة البنا في سنة 1954 بعد سنتين من التوافق بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين، لكن هذا الحظر لم يضعف الجماعة بل قواها أكثر، ويوم رفع الغطاء السلطوي عن الحياة السياسة المصرية يوم 25 يناير 2011 أطل الإخوان المسلمون برؤوسهم، وحصلوا على أغلبية أصوات الشعب المصري بسهولة كبيرة، لأن الجماعة، وإن كانت محظورة قانونيا، فنشاطها لم ينقطع فوق الأرض وتحتها، فالأخوان المسلمون حركة دينية وسياسية محافظة تعبر عن أزمات وتطلعات جزء من المجتمعات الشرقية والعربية عموما…
حظر جماعة الإخوان وطردها من الحقل الشرعي والقانوني لن يوقف نشاطها، هذه حقيقة تثبتها التجربة السابقة ولا حاجة إلى الدفاع عنها هنا. الآن، ما هي مخاطر هذا الحكم القضائي المسيس؟
قرار حظر جماعة الإخوان بعد الانقلاب العسكري على رئيسهم معناه أن الجيش المصري يريد أن يدفع الإسلاميين إلى العمل السري تحت الأرض، ويريد أن يخرج جماعة الإخوان المسلمين من الممارسة السياسية السلمية إلى رد الفعل العنيف. ويرمي قرار الحظر إلى محو الفرق بين المعتدلين والمتطرفين. الجنرال عبد الفتاح السيسي رجل مخابرات عسكرية، وهو يعرف أن مواجهة حركة سياسية سلمية وعلنية بالاعتقالات والمحاكمات الصورية والرصاص الحي والاعتقالات العشوائية مواجهة خاسرة، وستجلب لجماعة بديع التعاطف الذي يستفيد منه المظلوم عادة.
حظر جماعة الإخوان المسلمين أو أي حركة عقائدية أو سياسية لا ينهي وجودها. الذي ينهي وجود أي حركة هو قناعات الناس بأن ما تحمله من أفكار وبرامج وبدائل لا يصلح لهم، وهذا الاختيار لا يتم إلا في سوق العرض السياسي المفتوح، سوق تتبارى فيه المشاريع بكل حرية وديمقراطية.
الحركات الشيوعية جلها كان ممنوعا في الدول العربية، وهذا لم ينه وجودها، بل بالعكس المنع قواها أكثر، وجعل دعايتها فعالة لأنها ممنوعة ولأنها كانت تقول للناس: «إن الأنظمة الرجعية الفاسدة تخافنا لأننا نشكل البديل الحقيقي، لهذا تمنع وجودنا القانوني»، رغم أن جلها لم يكن يقدم بديلا حقيقيا لبلاده، وجل هذه الحركات كان مدفوعا بالعاطفة والرفض للفقر والظلم والتهميش الذي كانت ولاتزال تعيشه الدول العربية. كانت الحركات الشيوعية الراديكالية تقرأ واقع بلادها المعقد بنصوص ماركس ولينين وماو تسي تونغ… دون الانتباه إلى خصوصيات الواقع، وطبيعة المجتمعات التي يتحرك فيها الشيوعيون، لكن لأنها مقموعة وممنوعة لم تكن محل نقاش عمومي، ولم تتح للناس إمكانية تجريب مشاريعها ثم الحكم عليها. الشيء نفسه وقع ويقع مع الإسلاميين اليوم. إبعادهم عن العمل السياسي معناه تقريبهم من العمل العسكري، وطردهم من التنافس العلني على أصوات الناس معناه فتح أبواب التطرف والغلو أمامهم، ودفعهم إلى النزول تحت الأرض. هذا معناه أنهم سينصرفون للتنظير للموت لا للحياة، للآخرة لا للدنيا، لتقويض حكم الأنظمة القائمة لا لإنضاج بديل عقلاني للخروج من النفق.. نفقهم ونفق المجتمعات التي يعيشون فيها.
الحركة الإسلامية في تركيا تطورت مع تطور مشاركتها في العمل السياسي، ونحن نرى اليوم أنها النموذج الناجح الوحيد وسط حركات الإسلام السياسي، الذي استطاع أن يفوز بأكثر من خمسة انتخابات، وأن يقود تجربة مهمة للخروج من التأخر الحضاري الذي كان يعوق حركة الأتراك.
الاحتكاك بالواقع هو الذي يقضي على التطرف، وكلما احتكت حركات الإسلام السياسي بالواقع إلا وصارت معتدلة أكثر وبرغماتية أكثر وعقلانية أكثر، لأنها تكتشف أن النص الديني لا يكفي كبرنامج سياسي، وأن مقولة «الإسلام هو الحل» شعار تعبوي لا يغني عن الاجتهاد والعمل على بلورة مشروع مجتمعي، فيه شق قيمي إيديولوجي، وفيه أيضا شق سياسي واقتصادي واجتماعي وتدبيري، وهذا يحتاج إلى نخب قادرة على بلورة هذا المشروع، تتحلى بجرأة لحل التناقضات والقضايا المستعصية في الداخل والخارج، وبمصداقية لإقناع الناس بصواب هذا الاجتهاد.
الإسلاميون فصيل سياسي نبت في هذه الأرض، ومهما كان اختلاف المرء معه في فهمه للديمقراطية وقبوله بالتعددية وإيمانه بالاختلاف، فلا يجب أن يصبح هذا الأخير استئصاليا يطالب برأس خصمه، لأن هذا حل انتحاري لا يحل المشكلة بل يعقدها، ويجعل الديمقراطية مستحيلة لأن الديمقراطية تقبل التعايش حتى مع غير الديمقراطيين أو نصف الديمقراطيين، على عكس الديكتاتورية التي لا تقبل بأحد حتى وإن كان من فصيلتها.