أمام التضخم التشريعي.. هل الجهل في مادة التدبير الإداري أصبح مسيرا بحكم الواقع؟

24 يونيو 2023 - 12:09

لايمكن لأحد أن ينكر أن الإدارة المغربية بجميع تكويناتها ومرافقها تعاني من اختلالات جسيمة جعلتها محط انتقاد واسع.
هذه الوضعية تؤكدها أرقام مرعبة صادرة عن هيئات وطنية وأخرى دولية دفعت بأعلى سلطة في البلاد إلى انتقادها غير ما مرة.
في خضم هذا الواقع المرير نشأت نظرة سوداوية عن الإدارة المغربية سننتقي بعضا من تجلياتها خاصة من زاوية الطلبيات العمومية والإدارة المنتخبة لكن مع التأكيد على أنه لايمكننا التحدث عن ظاهرة مكتملة الأوجه نظرا لغياب أرقام ومعطيات وصفية دقيقة.

بعد قراءة بسيطة يمكننا الوقوف على حقيقة مرة مفادها أن ما يساهم بشكل جلي ومباشر في انتشار الفساد في الإدارة هو الجهل بقوانينها وتفرعاتها.

هذا الجهل ينتشر كالسرطان في جميع المستويات بدرجات متفاوتة:
– الإدارة المنتخبة: هي في الأصل فن وممارسة لكنها أضحت رمزا للجمود والرشوة بل مصدرا لتكوين الثروة وصلت حد التوريث.
اللعبة السياسية في المغرب التي تم تلخيصها في الانتخابات جعلت من الوسيلة غاية. هذه الممارسة أنتجت سياسيين يعطون وعودا انتخابية سرعان ما يبررون بعدها فشلهم في صعوبة التنزيل على أرض الواقع، ولعل أكثر شيء يجسد هذه الممارسات هو برنامج العمل الذي يبدأ بحلم وردي وينتهي بطلاق مرير مع تراكمات سلبية وتقارير سوداء صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات.
لا يمكن حصر سبب واحد لهذه الوضعية، لكن لعل أهم أسبابها هو التضخم التشريعي ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، يكفي الاطلاع على العدد الهائل للتشريعات المنظمة لأنشطة الجماعات الترابية والتذكير بعدد الدوريات الصادرة عن المديرية العامة للجماعات الترابية بين 2020 و 2023 والتي تجاوزت 60 دورية. فأي فريق عمل لدى الجماعة سيستطيع تتبع هذه الدوريات وتنزيلها على أرض الواقع؟
رغم ما استثمرته الدولة في التكوين قصد تجويد العمل الإداري فالملاحظ في الدورات التكوينية لفائدة المنتخبين أن عدد الحاضرين قليل جدا ولفترة جد وجيزة ويوجهون نفس السؤال -وكأنهم تواصوا به- عن سبل فضح الرئيس الذي لا يشاركهم المعلومة. هذه المعلومة هي حق دستوري مكفول ومتوفرة بطريقة أو أخرى، لكن أنى لهم ذلك !
في قصة أخرى قصيرة أكثر تجسيدا لواقع الحال فقد طالب أحد المستشارين من رئيس المجلس الجماعي “رؤية” الميزانية معتقدا أنها مال مركوم في الخزانة الحديدية….!
في ظاهرة أخرى مثيرة، يصعب تحديد آليات تفعيل قرار عزل المنتخبين فالترسانة القانونية هي جد متشعبة ومعقدة تجعل مهمة التسيير شبه مستحيلة حتى بالنسبة لأهل الاختصاص، فما بالك بمنتخب يتوفر على شواهد علمية جد محدودة. من جهة أخرى، فإن المادة 64 من القانون التنظيمي للجماعات الترابية أكدت صراحة أنه: “إذا ارتكب رئيس المجلس أفعالا مخالفة للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل، قام عامل العمالة أو الإقليم أو من ينوب عنه بمراسلته قصد الإدلاء بإيضاحات كتابية حول الأفعال المنسوبة إليه، داخل أجل لا يتعدى عشرة (10) أيام ابتداء من تاريخ التوصل. يجوز للعامل أو من ينوب عنه، بعد التوصل بالإيضاحات الكتابية، أو عند عدم الإدلاء بها بعد انصرام الأجل المحدد، إحالة الأمر إلى المحكمة الإدارية وذلك لطلب عزل عضو المجلس المعني بالأمر من مجلس الجماعة أو عزل الرئيس أو نوابه من عضوية المكتب أو المجلس. وتبت المحكمة في الطلب داخل أجل لا يتعدى شهرا من تاريخ توصلها بالإحالة.
وفي حالة الاستعجال، يمكن إحالة الأمر إلى القضاء الاستعجالي بالمحكمة الإدارية الذي يبت فيه داخل أجل 48 ساعة من تاريخ توصله بالطلب. يترتب على إحالة الأمر إلى المحكمة الإدارية توقيف المعني بالأمر عن ممارسة مهامه إلى حين البت في طلب العزل.
ما يعاب على هذه العقوبة كونها غير متدرجة ويكفي لتحقيقها وجود “خروقات” بشكل فضفاض كيفما كان نوعها أو أثرها.
من ناحية أخرى، يصعب تحديد الفعل الجرمي في بعض النوازل كمفهوم تبديد المال العام، فهناك خيط رفيع بين فشل المشروع وتبديد المال العام يرتكز على مفهوم ” بذل العناية اللازمة “.
في هذا الباب، لابد من توجيه الدعوة لأصحاب البذلة السوداء قصد المزيد من الإبداع القانوني والدفع بالتخصص في ميدان الطلبيات العمومية باعتبارها ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني.
– القضاء: لابد أولا من الإشادة بجودة تقارير المجلس الأعلى للحسابات باعتباره أحد أهم قنوات مراقبة وتقييم المالية العمومية.
من جهة أخرى تبقى العلاقة بين القضاء الجنائي والقضاء المالي قوية جدا وإن كانت مختزلة في مادة فريدة من مدونة المحاكم المالية – المادة 111- والتي يمكن وصفها بالميثاق الغليظ. هذا الميثاق يبدأ بداية قوية عبر ديباجته “أفعال من شأنها أن تكتسي طابعا جنائيا” هنا نتساءل وبكل حيادية إلى أي حد يستطيع القاضي الجنائي تأكيد أو نفي “إحساس” القاضي المالي في غياب آليات واضحة لضبط الفعل الجرمي وفي ظل اقتصاد يطغى عليه القطاع غير المهيكل في ميادين عدة.
للتذكير فقد كشف المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الأخير، عن إحالة حوالي عشرين ملفا على الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، طبقا لأحكام المادة 111 من مدونة المحاكم المالية، وذلك قصد اتخاذ المتعين بشأنها وفق المساطر الجاري بها العمل.
وأوضح المجلس الأعلى أن أهم الأفعال المكتشفة من طرف المحاكم المالية والتي تمت إحالتها على القاضي الجنائي تتعلق بتوجيه مسطرة إسناد طلبيات عمومية بشكل يخالف مبادئ المساواة والمنافسة في ولوج الطلبيات العمومية.
كما تشمل هذه الأفعال، حسب التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات، بالمبالغة في أثمان الطلبيات العمومية، إضافة إلى أداء نفقات في غياب العمل المنجز (الحولات الصورية)، تقديم حسابات غير صحيحة، واستعمال ممتلكات جهاز عمومي لأغراض شخصية، واقتناء معدات في غياب حاجة حقيقية.
هذه الوضعية دفعت بالمحاكم الجنائية إلى المزيد من الإطلاع على آليات ضبط الطلبيات العمومية، حيث أفاد الأستاذ الوردي المستشار بديوان الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بأن عدد الوثائق المرفقة بالأحكام والقرارات القضائية المتعلقة بملفات جرائم الأموال قد تصل إلى المئات، مشيرا إلى أن القضاة المُكلفين بالبت في الملفات المتعلقة بجرائم الأموال لا يَكفيهم الاطلاع على القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية فقط، وبأن المطلوب منهم أيضا “الاطلاع وفهم واستيعاب قانون الصفقات العمومية ومرسومه التطبيقي ودفتر الشروط الإدارية العامة”.

– الجامعة: الحاضر الغائب، تركت للأسف فراغا مهولا في مادة البحث العلمي في علم الإدارة، واكتفت بالتأطير النظري والتاريخي لم تتجاوز في ذلك مدرجات الجامعة وقاعات المحاضرات، حيث غيبت دورها البحثي والتطويري والمفارقة أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات “وبخت” بعضا من مسيريها.
لكن مؤخرا بدأ يطفو على السطح نقاش علمي رائع يؤكد ما سلف ذكره -ولو من زاوية مختلفة – حول تموقع النص القانوني المنظم للصفقات العمومية بين التنظيمي والتشريعي حيث خلص أحد الباحثين في العلوم السياسية والمالية العمومية إلى أن: “أم المعارك التي كان من المفروض على العقل الجامعي والعقل الأكاديمي المغربي خوضها والانتصار فيها كانت تتمثل أولا في الانتصار في تحرير النص المتعلق بالصفقات العمومية من قبضة القانون التنظيمي للمالية؛ أما الشق الثاني من المعركة فكان يتطلب نقل النص المتعلق بالصفقات العمومية إلى المربع التشريعي احتراما للمقتضيات الدستورية. انتصار العقل الجامعي والعقل الأكاديمي في ما يمكن اعتبارها أم المعارك الدستورية والقانونية كان سيمنح المغرب نصا قانونيا قويا وجامعا، نصا يملك مقروئية قوية، ما يمنحه جاذبية قوية على المستوى الوطني والدولي، جاذبية تسند استراتيجية الاستيقاظ الجيو اقتصادي”.

– المقاولة: الغالبية العظمى من المقاولات لا تستطيع الذود عن نفسها وتبقى تابعة لسلطة الإدارة، لذلك فثقافة المقاولة المواطنة هي شبه منعدمة وهي إلى حد ما متواطئة، هذا التواطؤ يبلغ مداه عندما نصادف نفس الشركات تشتغل مع نفس الإدارة وتكتفي الفئة المقصية بالتدمر والهمز واللمز دونما طرق أبواب التظلم المنصوص عليها في مختلف التشريعات جهلا منها بحقوقها وواجباتها. هذه الوضعية جعلت الإدارة المغربية نوعا ما مرتاحة وغير آبهة لهموم المقاولة، ولعل الأرقام المرعبة المتعلقة بحالات الإفلاس هي أكبر معبر لهذا الواقع.

– الإعلام: لا أحد ينكر دور الإعلام في تنوير الرأي العام حول كيفية تدبير المال العام، لكن وللأسف ونظرا لغياب صحافة مختصة نشأ واقع مفزع يعتمد على التشهير والتهويل أكثر منه إلى التنوير والبحث عن الحقيقة. فلا الخبر مقدس ولا التعليق حر. رأي بعيد عن الحيادية والموضوعية بل أكثر من ذلك ربما أمعن الصحافي في ترسيخ صورة سوداء عن الواقع أكثر من ضيفه.

– الجمعيات المدنية: في غياب أرقام وإحصاءات رسمية حول عدد ومآل الشكايات التي هي تحت تأطير جمعوي فإنه يصعب الجزم بكون الأمر أصبح مرهقا ومكلفا للممارسة السياسية ككل. لكن هناك بعض التجارب أكدت هذه الآلية نجاعتها واستطاعت إلى حد بعيد حماية المال العام من النهب والسطو ومحاصرة المفسدين، وبالمقابل في حالات عديدة تقوم فيها بعض الأطراف باستغلال هذه الآلية قصد القيام بتصفيات حسابات ضيقة على حساب المواطن والقضاء بل ويتم استغلالها أبشع استغلال قصد التشهير وضرب المصلحة العامة عرض الحائط.

– الرأي العام: هي دائرة اهتمام وليس تحكما. إلى حد كبير تتأثر بالأخبار السلبية وتعتبرها حقيقة مطلقة وإن تجاوزت الخيال. مع مرور الوقت تصبح محكمة قائمة الذات لا تسمع إلى المشتكى بهم، بل ويتم الدفع بالمؤسسات لإرضاء الرأي العام.

لا يعذر أحد بجهله للقانون… نعم، لكن إن كان هذا القانون ترسانة لا حصر لها، فهل يجوز الاعتماد عليها، أليست هذه القاعدة وهما بعيدا عن الواقعية أمام التضخم التشريعي وكثرة المتداخلين. أليس كل مدبري المال العام يحتجون بكون أعمالهم مراقبة على حد السواء من السلطة المالية والسلطة المحلية؟

هل العبرة بإنشاء هيئات أخرى كالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أم العبرة بابتداع قوانين وتشريعات إضافية كقانون الإثراء غير المشروع؟
هنا تكمن الحقيقة التي يجب مواجهتها، واحدة ثابتة، الجهل، أحد أخطر الآفات الثلاث، عدو الأمة. الجواب وبكل بساطة إخراج مادة التدبير الإداري من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة.

بقلم : نجاحي ياسين
مهتم بميدان الطلبيات العمومية
أستاذ زائر ببعض المعاهد العليا

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التالي