أربع سنوات مرّت على خروج المغاربة في حلم جماعي بتحقيق العدالة والكرامة والديمقراطية؛ فترة زمنية كافية لتمكين الباحث السوسيولوجي وعالم السياسة والسياسي المنخرط من أدوات القراءة والتفكيك واستخلاص الوجهة التي اتّخذها قطار الإصلاح السياسي الذي انتظره المغاربة طويلا. سؤال واحد طرحته «أخبار اليوم» على عشرات المراقبين والمتخصصين: «ماذا تغيّر في ملكية المغرب بعد 4 سنوات من دستور الربيع العربي؟ هل تقلّص دورها في اتجاه إفساح المجال أمام دور أكبر لحكومات ومؤسسات منتخبة؟ أم اتّسعت دائرة تدخّلها، بفعل ضعف النخب الحزبية وعجزها عن ارتداء القميص الدستوري الجديد، أو تحت ضغط قوى المقاومة ورفض الإصلاح؟».
محمد الناجي*: السلطة الملكية في أوجها
إن الظروف المساهمة في تشكل نص من النصوص تكون كاشفة ومعبرة أكثر من النص ذاته، ويبدو ذلك واضحا حتى في نص أساسي مثل الدستور الذي يعبر عن مشروع أمة في طور التكوين. إذ إن المنهجية المتبعة في إعداد وصياغة هذا النص تحمل في طياتها علامات واضحة عن موازين القوة، كما تكشف وتترجم التطلعات التي يجسدها، وكذا المقاومات التي يثيرها. وبغض النظر عن دوافع ومصالح الفاعلين السياسيين، فالنص الدستوري عموما يمثل تجسيدا لضمير الأمة، كما يعكس تحدياتها الكبرى وقيمها الأساسية.
والملاحظ أن الوثيقة الدستورية التي تبناها المغرب مؤخرا لم تكن ثمرة «صراع طبقي» أدى عمليا إلى فرض مضمونها وضغط في اتجاه صياغة موادها، بقدر ما كانت وسيلة للإحاطة بهذا الصراع ونزع فتيله. فلا يوجد أي نظام يتنازل بشكل تلقائي عن سلطاته، فهو لا يرضخ إلا تحت الضغط الشعبي الذي يدفع به إلى التنازل بهدف انتزاع المكتسبات التي يصبو إليها.
فإذا كان الضغط الشعبي قد لعب دورا مهما في المغرب وساهمت فيه الحركات الاجتماعية التي تواجدت على نطاق واسع، فإن هذا الضغط لم يكن كافيا بالشكل الذي يسمح بتعديل وتغيير ميزان القوة لصالحه، خصوصا وأنه لم يكن يتوفر على تنظيم مهيكل، وعلى قيادة ذات مؤهلات فكرية ومشروع متكامل يساعدها على التفاوض من موقع قوة.
هذه هي طبيعة السياق الذي تمت خلاله بلورة الدستور الجديد الذي أبدى انطباع التفاعل مع الشارع وإرجاع صدى تطلعاته التي عبر عنها. غير أن النص الدستوري كان في الواقع ثمرة لاستراتيجية، الهدف منها بالأساس ضمان الاستمرارية والوقاية من الإعصار في مرحلة دقيقة بالنسبة إلى المنطقة عموما، واستثمار المطالب الشعبية عن طريق تحويلها إلى مبادرات إصلاحية.
والجدير بالذكر، أن الواقع اليوم، يبين بشكل ملموس عدم تلاؤم الوثيقة الدستورية مع الانتظارات، بل ويعكس بشكل واضح طبيعتها الحقيقية. إذ، ودون الدخول في التفاصيل، يمكن التركيز على بعدين أساسيين يؤكدان ما نشير إليه:
البعد الأول هو تمركز السلط: فالسلطة الملكية في أوجها، إذ يظهر جليا أنها القطب المركزي والآلة المحركة والأداة الأساسية التي لا محيد عنها في مختلف التدابير والإجراءات. يحتل الملك مركز الصدارة في الحياة السياسية، ويتحكم في كل الخيوط الضابطة لمختلف المستويات، سواء منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو ديني. فهو الذي يتوفر على الضوابط التي تجعله قادرا على تدبير التفاوض، وكذلك على وسائل الضغط على مختلف الدوائر. وما وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة إلا دليل آخر، يبين بما لا يحتاج إلى كبير عناء، السيطرة والتحكم في مراكز القرار الأساسية من طرف المؤسسة الملكية. وغير خاف أن هذا ليس نتيجة طبيعية لإجماع شعبي، بل هو أساسا نتاج لواقع موازين القوة، الذي يبدو جليا أنه لم يتغير قيد أنملة.
البعد الثاني هو المتعلق بالحريات: فقد أظهرت الأحداث التي وقعت مؤخرا، والتي تصدرت عناوين الصحف، مدى الهشاشة التي توجد عليها هذه الحريات، خصوصا ما يتعلق منها بالفئات الشعبية. فلازال الجهاز القمعي الذي يقوم على الردع والتخويف متحكما، ولازالت مخلفات الأساليب المخزنية التقليدية حاضرة.
من البديهي والحالة هذه، أن وعيا حقيقيا بأهمية التاريخ، يمكن أن يؤدي بالنظام إلى تبني رؤية واضحة واستراتيجية ذكية، ترقى إلى مستوى التحديات التي يواجهها مجتمعنا، وللانتظارات الكبرى المتعلقة بالحريات الفردية، وكذلك الاستجابة للحاجات الكثيرة في المجال الاقتصادي ومجال التربية والتعليم. فالوثيقة الدستورية الجريئة هي تلك القادرة على أن تعكس الحالة الحقيقية والمتضمنة بوضوح كبير وبدون لبس أو غموض للمبادئ الأساسية الهادفة إلى التفاعل الإيجابي، القادر على تجاوز الواقع والمساعدة على تحقيق رهاناته. فلا يمكننا والحالة هذه، إلا أن نقر بأن المغرب لازال بعيدا عن هذا الطموح.
*كاتب
المعطي منجب*: عاد استعمال الهاتف مع بعض الوزراء
ما تظهره 4 سنوات من عمر الدستور الحالي، وخصوصا السنتين الأخيرتين، هو أن الدستور المغربي ومنذ الدستور الأول لـ1962 وكل التعديلات التي تلته، والدستور الثاني لـ2011، ليس هو المرجع الاستراتيجي في توزيع السلط وتحديد من يمارسها فعليا.
ففي سنتي 2012 و2013، كان يبدو أن هناك تأثيرا للدستور في السير العام للدولة، لكن سرعان ما تبيّن أن ضغط الشارع والخوف من عودة الحَراك الشعبي هو ما دفع النظام إلى التزام ما جاء به الدستور من توزيع للسلط، خاصة ما كان في صالح الحكومة.
ابتداءً من صيف 2013، ومع تراجع المد الديمقراطي في المنطقة العربية، وخصوصا بعد الانقلاب الذي شهدته مصر وعدم معارضته من طرف القوى الغربية التي يرتبط بها المغرب، بدأت عودة واضحة إلى ما كان عليه الأمر في السابق، أي قبل الربيع العربي. وأصبحت السلطة تمارس بناء على موازين القوى وليس بناء على الدستور، رغم أن هذا الأخير تبقى له فائدة تتمثل في كونه البعد المكتوب لميزان القوى الذي تغيّر في العام 2011.
جزء من الدولة يحاول العمل على استمرار تنفيذ ما حملته مقتضيات هذا الدستور، لكن الأجهزة الأمنية بدأت في الفترة الأخيرة تتقوى وأصبحت أحد المنفذين الأساسيين لسياسة النظام، كما لوحظت عودة استعمال الهاتف، خاصة مع بعض الوزراء، وهي كلّها مؤشرات عن محاولة التراجع.
* مؤرخ وناشط حقوق
مصطفى السحيمي*: تحجيم بنكيران لنفسه جعل الآمال تتعلق مجددا بالملك
هناك ملاحظات أساسية لابد من إبدائها في رسم حصيلة أربع سنوات من عمر الدستور الحالي، أولها هذا التأخر المسجّل في إعمال مقتضياته، من خلال 20 من القوانين التنظيمية وعشرات القوانين التكميلية الضرورية لذلك. هل يعود الأمر إلى عدم قدرة الحكومة، أو عدم رغبتها أو عدم معرفتها بكيفية الخضوع منذ البداية لأجندة تشريعية ضاغطة؟ نعم، لكن هناك أيضا صعوبة الالتزام بمسار يؤدي إلى وضع قواعد جديدة.
يتعلّق الأمر كذلك، بعامل ثقافي، يتمثل في مقاومة كل تغيير لدى الفاعلين السياسيين. لكنني أسجّل أيضا، تأخير الحكومة أقصى مدة ممكنة، عملية إحداث عشر مؤسسات للحكامة، ويتعلّق الأمر بالتحديد بتلك التي ترتبط بوضع منهجية جديدة لتطوير المراقبة والديمقراطية التشاركية. وهنا يمكن التفكير في القانون الذي ينظّم وضعية المعارضة، والذي لم يصادق عليه بعد، والشيء نفسه بالنسبة إلى القوانين الخاصة بالعرائض. في النهاية، هناك جمود عملي يمسّ هيآت تهم الحياة المجتمعية، أي كل ما يتعلق بالأسرة والطفل والهجرة والمساواة…
ملاحظة أخرى تتمثل في التراجع الذي يبديه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في كثير من الحالات عن ممارسة اختصاصاته كاملة. نعم، لقد استطاع اتخاذ القرار في بعض الحالات، مثل المقاصة وصناديق التقاعد، لكن بالنسبة إلى بقية المواضيع، اختار الامتناع ونوعا من التحجيم الذاتي. لماذا؟ لأنه أراد إعطاء ضمانات للملك وعدم تعريض نفسه لأخطار سياسية، من قبيل التداخل في الاختصاصات أو التجاوز فيها.
زعيم العدالة والتنمية يسعى أيضا، إلى تعزيز حظوظه كرئيس للحكومة ما بعد 2016، والاحتفاظ بحظوظه للترشح لولاية ثانية. فهو لم يدرج ولايته في إطار الولاية التشريعية الحالية، 2011/2016، وهو ما تحوّل إلى عامل «برودة»، بل جمود في طريق إنجاز الإصلاحات المعلنة والمنتظرة. وهذا خطأ في الاستشراف، لأنه في 2016 سيكون مطالبا بتقديم الحساب عن هذه الولاية التشريعية الحالية.
ملاحظة أخيرة، تتمثل في كون الزخم الذي تولّد في العام 2011، لم يحافظ عليه بالشكل الذي يولّد إيقاعا سريعا للإصلاحات. لقد عدنا للسقوط في مستوى متدنّ لا يساعد في إعادة الاعتبار للسياسة في أعين المواطنين. في هذا الإطار، عادت الآمال لتتعلّق بالملك من أجل إطلاق سياسية إصلاحية. فهل سنفاجأ بعد كل هذا إذا عاد الحضور الملكي المكثّف في مجال القرار والتنظيم، بشكل يتجاوز الدستور؟
* أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري