من مقامه بالرباط؛ يراقب هشام العلوي؛ ابن عم الملك محمد السادس ردود أفعال المغاربة مع فيروس كورونا. هذا المعارض للنيو- ليبرالية يدعو هنا إلى قطيعة معها من خلال إشراك المجتمع في المبادرات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. فهل يمكن لهذه الأزمة الصحية أن تشكل فرصة يجب اقتناصها؟
هشام العلوي (عن “لوسوار” البلجيكية- ترجمة: “أخبار اليوم”)
لم أتردد على مدى السنوات العشرين الأخيرة على المغرب إلا لفترات متقطعة لزيارة عائلتي وأصدقائي؛ وها أنا اليوم أقيم فيه بدون تحديد لأي مدة؛ إلى أن تعرف جائحة كورونا نهاية لها. وبهذا، فإنني أراقب عن كثب آثار الجائحة على بلد مولدي مثل أي مغربي فخور ببلده؛ ولكن، كذلك، كمحلل سياسي يعمق النظر في تفاعلات الدولة مع الوضع، ويحاول أن يحلل أي ديناميات اجتماعية جديدة يمكن أن تفرزها هذه الأزمة.
على المستوى الرسمي؛ جرى توصيف التدابير المغربية من حجر صحي، وعزل على أنها نموذج في التفاعل. فعلى الرغم من النقص في التحاليل المخبرية، ومن عدم عودة مغاربة الخارج؛ فقد جرى توفير موارد مهمة للمستشفيات. وجرى إحداث صناديق استعجالية لدعم الاقتصاد. كما أن القوى العسكرية والأمنية طبقت سياسات صارمة في الحجز الصحي والتباعد الاجتماعي. وعلى الرغم من كون معدلات الإصابة بالعدوى تعتبر نسبيا من بين الأعلى في إفريقيا، فإنها مع ذلك تظل منخفضة نسبيا؛ وهذه حقيقة يمكن للمغاربة قاطبة أن يعترفوا بها.
حقيقة مزعجة
غير أن تفاعلية هذه الأجوبة تكشف عن حقيقة مزعجة. فالدولة بادرت إلى التدخل بسرعة بهدف احتواء الجائحة؛ لأنها لم يكن لها أن تسمح لنفسها بفعل غير ذلك؛ وخصوصا بسبب التأخر المسجل في قطاعات أساسية مثل التعليم والتوظيف؛ وهو تأخر ناتج مباشرة عن نموذج اقتصادي نيو- ليبرالي منفلت؛ جرى تبنيه من طرف المخططين الوطنيين خلال عقدين؛ على حساب التنمية الاجتماعية. فقطاع الصحة غير قادر على استيعاب ولو حتى زيادة متواضعة في أعداد المرضى الذين هم في حاجة إلى الاستشفاء ولا في أعداد المتوفين. وخلاصة القول؛ إن استجابة المغرب كانت مع ذلك مثالية، بالنظر إلى إمكانياته.
المخاطر التي تتهددنا
لماذا يبقى الأمر مزعجا؟ ذلك أن التوقعات العلمية تتنبأ بموجة ثانية للجائحة خلال الشتاء المقبل، وكذلك لأننا في المستقبل سوف نشهد على الدوام العديد من التهديدات الوجودية من هذا النوع. وسيزيد التغير المناخي من تفاقم هذه الأخطار. وعلينا أن نتوقع استمرار قطاعات كاملة من الاقتصاد المغربي في أزمة في المستقبل القريب. فهناك جزء كبير من اليد العاملة في البلاد يعمل في القطاع غير المهيكل، نتيجة لنيو- ليبرالية متوحشة لا يحدها حد؛ لم ينتج عنها أي تأثير مثمر بسبب ضعف في سيادة دولة الحق والقانون. وبدون أن نخفض بشكل كبير من حجم اللامساواة؛ فإن العلاجات الفعالة ضد “كوفيد ــ 19” لن تعود على أغلب الساكنة بأي إسعاف يذكر. ولنا كمغاربة – حتى ندرك حجم المخاطر التي تتربص بنا- أن نلاحظ فقط الوضع في منطقة الريف؛ حيث أدى تراكم أوجه القصور إلى تمرد اجتماعي.
لقد ألقى العديد من المغاربة في سياق هذه الأزمة بتذمرهم وشكواهم جانبا وعززوا ثقتهم في الدولة. فالمغاربة من الناحية السياسية لا يعيشون في سياق الاستقطاب المفرط، كما هو شأن غيرهم من المواطنين المغاربيين. صحيح أن المغرب لا يتوفر على نظام ديمقراطي مثلما هو حال تونس؛ حيث تحافظ المؤسسات الانتخابية على الأمور مستقرة؛ ولكنه في الوقت عينِه لا يشهد الاختلالات العميقة التي تشهدها الجزائر التي كشف فيها “حَراك” الاحتجاجات الشعبية في العام الماضي عن تآكل شرعية السلطة العسكرية وشرعية واجهتها المدنية كذلك. ومن المؤكد أن السياسة الجزائرية سوف تعرف تمزقات أكبر بعد الجائحة.
إن المغرب يتموضع في الوسط؛ فعلى عكس تونس التي تقوم فيها المؤسسات الديمقراطية بالتخفيف من حدة الأزمة وبالتحكم فيها؛ لا يمكن للدولة المغربية إلا أن تتجاهلها مؤقتا وتؤجلها إلى وقت لاحق. غير أن السياسة المغربية لا تُمزقها انقسامات لا مجال للتوفيق بينها؛ وذلك في جزء منه بسبب الوجود الموحِّد للملكية. وهذا يوفر للمغاربة الفرصة لتصور مستقبل من الممكن أن تتحسن فيه الحَكامة، ويمكن فيه تعويض النقائص السابقة مما سيسمح لنا بأن نكون على استعداد بشكل أفضل لمواجهة التهديدات المستقبلية. ولكن مع ذلك؛ فهذا لا يحل بأي حال محل تعددية حقيقية؛ غير أنه يمكن على الأقل أن يسهل ظهورها.
نحو الاكتفاء الذاتي
أعلن الملك محمد السادس مؤخرا عن كون النموذج التنموي القائم؛ قد باء بالفشل. ولدينا اليوم فرصة سانحة للتغلب على هذا الفشل؛ وذلك على أساس المثل الصيني الذي يؤكد على أن كل أزمة تصاحبها فرص سانحة. إذ علينا أن نعد أنفسنا لمواجهة المصاعب الجديدة التي ستخلفها الأزمة؛ وهي مصاعب قد تستمر طويلا في الزمن. ونذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر، أن التحويلات المالية من الخارج؛ التي ظلت لزمن طويل موردا حيويا للاقتصاد؛ سوف تنخفض؛ لأن مغاربة الخارج من المحتمل أن يحتفظوا بأموالهم بين أيديهم. كما أن قطاع السياحة سوف يحتاج إلى سنوات عديدة قبل أن يتعافى. غير أن المغرب بإمكانه مع ذلك أن يستفيد من الاختلالات في سلسلات التزود العالمية لينفتح على أنماط جديدة في الإنتاج. بحيث يجب أن يصبح الاكتفاء الذاتي والإنفاق الاجتماعي من الأولويات.
وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان عدم الاكتفاء بتعديل النموذج النيو- ليبرالي بخطة ملكية أخرى جاهزة؛ فالأمر لا يتعلق فقط، بتقييم الأفكار التي تقوم عليها التنمية؛ بل الواجب التوكيد على العملية التي تسمح لهذه الأفكار بأن تتحقق. وكم هي نادرة في المغرب القطائع التي تمكن من مثل هذا الاستبصار. لقد سنحت قطيعة أولى بعد وفاة عمي الملك الحسن الثاني سنة 1999، ثم جاءت قطيعة ثانية مع الربيع العربي في سنة 2011. وها نحن اليوم، نعيش قطيعة جديدة؛ من شأنها أن تمكن مجموع المجتمع المغربي الذي توحده هذه الصدمة، كما توحده الإحباطات المشتركة؛ من أخذ مسافة لمراجعة الذات.
الإشراك عوض الإلزام
إنها عملية لن تتم بيُسر. ذلك أن العديد من المغاربة فقدوا كل ثقة في كل التزام سياسي بعد تعدد الوعود بالإصلاح التي أُخْلِفَت. فزخم الربيع العربي الذي كان يتطلب الحق في الكلمة وفي الكرامة سوف يبقى دائم الحضور أكثر من أي وقت مضى. وعليه، فالمبادرات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة يجب أن تتم صياغتها في إطار تشاور وثيق مع المجتمع، عن طريق مشاورات موحِّدة تضمن الإشراك عوض فرضها من فوق والإلزام بها.
على الدولة أن تتجنب السقوط في الاستسلام أمام الإغراء القوي الذي يغذي الوطنية الكاذبة، أو أن تعزز من زخمها السلطوي بتحويل الجائحة إلى مسألة أمنية. ومن جهة أخرى، فإن تكنولوجيا المراقبة المستعملة في ضمان العزل الاجتماعي لا ينبغي إعادة استعمالها للتخلص من التعبئة السياسية؛ كما كان عليه الأمر في روسيا وفي الصين.
فهناك العديدون ممن اعتقدوا خطأً أن الأنظمة الأوتوقراطية كانت مؤهلة بشكل أفضل لمواجهة الأزمة مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية. فهذه مقابلة خاطئة. فمقابل كل نموذج لتدبير الأزمة على الطريقة الصينية توجد هناك في المقابل ديمقراطيات مزدهرة على غرار كوريا الجنوبية وتايوان اللتين عرفتا كيف تدبران الأزمة بشكل أفضل؛ وذلك بفضل تعاون وثيق بين الدولة والمجتمع، وليس بالاعتماد على الجيش أو الشرطة؛ بل بالاعتماد على الثقة وعلى الشفافية، وعلى انخراط المواطنين. وباختصار، إنها فرصة أخرى تسنح للمغرب؛ فلنعمل على عدم تفويتها.