“نغوغي واثيونغو”، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل”، يدافع “واثيونغو”، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل.
للمسرح أصول في صراعات الإنسان مع الطبيعة والآخرين. ففي كينيا ما قبل الاستعمار، كان المزارعون من مختلف القوميات يجثون الغابات، ويزرعون الغلال، ويتولونها بالعناية حتى النضج والحصاد- فتتولد من البذرة الواحدة التي تزرع في الأرض بذور عديدة. ومن الموت تتبرعم الحياة، وهذا بواسطة يد الإنسان وما تحمله من أدوات. هكذا، كانت هناك طقوس لمباركة القوة السحرية للأدوات. وثمة ألغاز أخرى: ألغاز أبقار وماعز وحيوانات أخرى وطيور تتزاوج- مثل البشر- فنشأت عن ذلك الحياة التي ساعدت على دعم حياة الإنسان. من هنا جاءت طقوس الخصوبة واحتفالاته التي تخلد الحياة وهي تنتح من الأرض، أو من بين أفخاذ البشر والحيوان. إذ كانت حياة الإنسان نفسها لغزا؛ ولادته ونشأته وموته، لكن عبر مراحل عديدة. هكذا، نشأت طقوس واحتفالات لتخليد وتعيين الميلاد، الختان أو البدء في مراحل مختلفة من النمو والمسؤولية، الزواج أو دفن الميت.
لكن لننظر إلى قسوة الطبيعة: كانت هناك مواسم جفاف وفيضانات تهدد بالخراب والموت. ستحفر الجماعة الآبار وتقيم الأسوار. لكن الآلهة تحتاج إلى الكفّارة؛ وذلك يعني طقوسا واحتفالات إضافية. لم تكن الأرواح والآلهة مرئية، لكن كان بمقدورها أن تصير ممثلة بأقنعة يضعها البشر. وكان بالإمكان أن تتحول الطبيعة إلى صديقة من خلال العمل والاحتفال.
لكن لننظر إلى قسوة الإنسان. يأتي الأعداء ليسلبوا ثروات الجماعة من ماعز وماشية. هكذا وقعت حروب لاسترداد الممتلَك. فبوركت الرماح والمحاربون وأولئك المدافعون عن الجماعة من أعدائها. وعاد المقاتلون الظافرون إلى الطقس والاحتفال. إذ مثلوا، بالغناء والرقص، مشاهد المعركة أمام أولئك الذين لم يشهدوها، وحتى يحيا المقاتلون المجد ثانية، وهم يستمعون إلى إعجاب الجماعة ويبتهجون بامتنانها. كما كان هناك أعداء الداخل، من ظالمين ولصوص ومتسكعين. وكانت هناك حكايات- تُروى في الغالب بلازمة- تحدد مصير أولئك الذين يهددون الصالح العام.
قد تستغرق بعض المسرحيات أياما، أو أسابيع، أو شهورا. كان هناك، بين “أجيكويو” كينيا، على سبيل المثال، احتفال الـ”إتويكا” الذي يقام كل خمسة وعشرين سنة أو نحو ذلك مما يؤرخ تسليم السلطة من جيل إلى آخر. كان الـ”إتويكا”، حسبما جاء في كتاب “كينياتا” “في مواجهة جبل كينيا”، يخلد بالقصف والرقص والغناء طيلة ستة أشهر. وكانت قوانين الحكومة الجديدة وأنظمتها تتجسد في الكلمات والعبارات والحركات الإيقاعية للغناء والرقص الجديدين. وما وصل إليه احتفال الـ”إتويكا”، فظل على الدوام يجري عبر موكب مسرحي. وكان الغناء والرقص والمحاكاة المناسباتية تحتل مكانة مركزية في جميع أنواع هذا التعبير المسرحي.
لم يكن المسرح، في كينيا ما قبل الاستعمار، إذاً، حدثا معزولا، بل كان جزءا لا يتجزأ من إيقاع حياة المجتمع اليومية والموسمية. كان نشاطا من بين أنشطة أخرى، يستمد طاقته في الغالب من تلك الأنشطة الأخرى. كما كان تسلية بمعنى المتعة الملتزمة. وكان توجيها أخلاقيا، مثلما كان مسألة صارمة تعني حياة الجماعة وبقائها وموتها. ولم يكن هذا المسرح يؤدى في بنايات خاصة موضوعة لهذا الغرض. بل قد يجري في أي مكان- حيثما كان هناك “فضاء فارغ”، إذا استعرنا تعبير “بيتر بروك”. إذ كان “الفضاء الفارغ”، بين الناس، جزءا من ذلك التراث.
IV
كان الاستعمار البريطاني هو الذي دمر ذلك التراث، حيث عدّت البعثات في حماستها التبشيرية العديد من هذه الموروثات أعمالا شيطانية، لا بد من محاربتها قبل أن يبسط الإنجيل نفوذه على قلوب الأهالي. كما كانت الإدارة الاستعمارية متواطئة معها. إذ كان أي تجمع يحتاج إلى ترخيص، حيث خشي الاستعمار من المقولة الإنجيلية التي مفادها أنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة، فإن الرب سيسمع صيحتهم. لماذا سيسمحون للرب في الأعلى، أو في دخائل الأهالي، بأن يسمع صيحة الناس؟ منعت العديد من هذه الاحتفالات، مثلما جرى للـ”إتويكا” في سنة 1925. لكن المنع استفحل وتفاقم من 1952 إلى 1962، أثناء كفاح “ماو ماو”، عندما اعتبر لقاء أكثر من خمسة أشخاص تجمعا عاما يحتاج إلى ترخيص. وقد استخدمت البعثات التبشيرية والإدارة الاستعمارية النظام المدرسي لتخريب مفهوم “الفاء الفارغ” بين الناس، محاولة استملاكه والحجر عليه في القاعات الإقليمية الحضرية التي تشرف عليها الحكومة، والقاعات المدرسية، وبنايات الكنائس، وفي بنايات مسرح قائمة ذات خشبات وستائر. بل إن “الفضاء الفارغ” أحيط، ما بين 1952 و1962، بأسلاك شائكة في السجون ومعسكرات الاعتقال حيث حُفِّز المعتقلون السياسيون والسجناء على إنتاج مسرحيات دعائية مؤيدة للاستعمار ومناهضة لحركة “ماو ماو” بشكل خانع.