فسحة رمضان على "أخبار اليوم".. موجات متعاقبة من الكوليرا وأكثر الضحايا بفاس -الحلقة 15

13 مايو 2020 - 20:00

في ظل جائحة كوفيد ــ 19، اختارت «أخبار اليوم»، أن تنشر سلسلة من الحلقات من كتاب مرجعي بعنوان: «تاريخ الأوبئة والمجاعات  بالمغرب في القرنين 18 و19»، لمؤلفه المؤرخ الراحل محمد الأمين البزاز، الذي اشتغل أستاذا بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويعد الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أشرف عليها المؤرخ جرمان عياش أشهرا قبل رحيله سنة 1990.

 

انطلاقا من فاس انتشرت الكوليرا سنة 1834 إلى مكناس ووزان والقصر الكبير وطنجة وتطوان والعرائش وسلا والرباط، وفي السنة التالية وصلت إلى الدار البيضاء وأسفي والصويرة ومراكش، وحتى إلى الواحات الشرقية التي تفشت فيها في خريف 1835.

وحسب رينو، فإن الوباء انقطع في جميع الموانئ، وفي غضون أكتوبر 1835 عاد إلى الظهور بطنجة وتطوان في شهر دجنبر، كما ظهر من جديد في فاس، حيث استمرت بعض الحالات بها إلى غاية فبراير 1837.

وتميزت الكوليرا، عموما، بزحفها البطيء، فهي لم تصل إلى الصويرة إلا بعد ظهورها في فاس بنحو 15 شهرا. كما أنها لم تكن تطيل مقامها في المكان عينه. ففي الصويرة، لم تمكث سوى عشرين يوما، وفي طنجة وتطوان استمرت ثلاثة أسابيع فقط. كما لم تبق بفاس سوى مدة وجيزة . أما الخسائر التي أحدثتها، فكانت أقل بكثير من تلك التي سجلت خلال الطواعين السابقة. وقد جاء في إحدى رسائل مولاي عبدالرحمان: “وعلمنا ظهور الوباء بوزان والقصر والعرائش وأنه مصحوب باللطف”. ومن خلال المعطيات المتوفرة، فإن عدد الضحايا الأقصى في اليوم الواحد لم يتجاوز 60 ضحية وسُجل هذا العدد في الرباط يوم 28 نونبر 1834، وفي مراكش في 25 يوليوز 1835، كما نجد أن عدد الضحايا في طنجة لم يتجاوز في ذروة الوباء 47 إلى 50 ضحية في اليوم، بينما لم تتجاوز حصيلة خسائرها 560 ضحية، أي نحو 8 في المائة من مجموع سكانها )7500 إلى 9000 نسمة(، وهي نسبة تقل بكثير عن تلك التي سجلت خلال طاعون 1818 -1820، والتي وصلت 20 في المائة.

مع ذلك يبدو أن الوباء ضرب بعنف بعض الجهات التي تتميز بكثافة سكانها وبتدهور المستوى المادي والصحي للسكان، وذلك ما ينطبق على فاس التي أدت ضريبة فادحة للوباء كما يتضح من هذه العبارة التي استعملها المشرفي: “ومات به خلق كثير وجمع غفير لا يحصى عدده إلا الملك القدير”. ويفيد تقييد محلي من مكناس، أن عدد ضحايا فاس بلغ 8 آلاف، ومكناس نصفها. كذلك الأمر في الواحات الشرقية التي داهمها الوباء في خريف 1835، إذ يُستفاد من تقييد محلي  أن عدد الضحايا بقصر المعيز، وهو أحد قصور فكيك، بلغ 345، مما يمثل 23 في المائة من سكان هذا القصر.

بيد أن خطورة الكوليرا لم تكمن في خسائرها البشرية فقط، بقدر ما كانت تكمن في دوراتها المتكررة. فبعد الظهور الأول لها في المغرب، فإنها لم تترك له راحة، إذ عادت لتنقض عليه في موجات متعاقبة متزامنة مع الأزمات الغذائية التي كانت تجعل عملها ميسورا.

وعادت الكوليرا من جديد للمغرب في مرحلتين من سنتي 1854-1855، ثم في 1859-1860، بعد الموجة العالمية للمرض. وتميزت المرحلة الأولى بأنها الأشد عنفا، ودخل المرض عبر الجزائر من الحدود الشرقية، وكانت الضحية الأولى هي فاس التي أصيبت في منتصف نونبر 1854، وقد فتك بها الوباء فتكا ذريعا وتحدثت المصادر المغربية عن 300 و400 ضحية في اليوم الواحد. يقول الفقيه التطواني سيدي مفضل أفيلال، وكان يومها بفاس: “وصار عدد الموتى يكثر شيئا فشيئا، إلى أن بلغ عددهم أربعمائة شخص في اليوم، ثم صار ذلك العدد يقل شيئا فشيئا إلى أن بلغ عدد الموتى به في اليوم الواحد نحو الثلاثين”. ومن جهته، يذكر ابن سودة” “وبلغ الموتى في يوم به خمسمائة فأكثر وبقي إلى أن ضعف أمره في أواسط جمادى الثانية، )مارس 1855(، وبقي ضعيفا إلى رمضان )ماي- يونيو( فصار في الزيادة، وبلغ به الموتى مائة في اليوم.

وتُحدِّثنا المصادر المغربية، أيضا، عن درجة فزع السكان من هذا الوباء وكثرة هروبهم من المدينة، وهي وسيلة لم تكن تجدي في الغالب نفعا، إذ كان الموت يلاحقهم “فمات به أثناء الطريق من الهاربين جم غفير وعدد كبير”. وبالإضافة إلى فتكه القوي، تميز الوباء بضرباته الصاعقة التي تردي ضحاياها صرعى في الحين، يقول المشرفي: “حتى كان البدوي يأتي يتسوق للحاضرة فلا يرجع لأهله إلا ميتا محمولا على الدواب. وخدمة الزرع في الفدادين إن كانوا جماعة لا يرجع سالما لأهله منهم إلا القليل حتى حكى لنا أن ابن مولانا أمير المؤمنين سيدي محمد بعث يوما لحصاد الزرع نفرا كثيرا مات منه 40 رجلا، وفي يوم واحد، بل في ساعة”.

وعلى عكس ما حدث عام 1834، حيث لم تمكث الكوليرا بفاس سوى مدة وجيزة، فإنها أطالت مقامها هذه المرة، ولم تقلع إلا في يوليوز وغشت 1855، لكن بعد إقلاعها حل محلها وباء الحمى الذي تفشى خاصة في الملاح، ولم تسلم منه أي أسرة. وقدر مصدر يهودي مجموعة ضحايا الحي بهذا الوباء بـ3000 ضحية.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *