فسحة رمضان على "أخبار اليوم".. فوضى الذاكرة.. "يوميات العمل الوطني والمسلح في المغرب"- الحلقة 19

19 مايو 2020 - 03:00

تعزز المشهد الثقافي المغربي في العقدين الأخيرين بصدور عدد من المذكرات، من أبرزها مذكرات فاعلين سياسيين من هيئات تنتمي إلى اليسار المغربي. وتناولت هذه المذكرات بشكل متفاوت وبرؤى مختلفة، الأحداث الهامة والمصيرية أحيانا، التي عرفها المغرب زمن الحماية والاستقلال. وأثار مضمون هذه المذكرات وما جاء فيها من آراء ومواقف وتفسيرات ردود فعل متفاوتة، صدرت عن مثقفين وسياسيين ومهتمين من أطياف متعددة. وتم الاحتفاء غير ما مرة ببعض هذه المذكرات. كما تم تقديمها في عدد من المنابر والمؤسسات. وفي هذا السياق، ومساهمة منها في إثراء النقاش الدائر، وانسجاما مع اهتماماتها، نظمت مجلة رباط الكتب الإلكترونية لقاءً علميا بشراكة مع مؤسسة أرشيف المغرب، في موضوع ذاكرة اليسار. وساهمت في اللقاء الذي احتضنته المؤسسة بتاريخ 18 أبريل 2019، ثلة من الباحثين الجامعيين والشباب. وقد اختار المشاركون في اللقاء مقاربة موضوع الذاكرة، من خلال نماذج منتقاة هي: شهادات وتأملات لعبد الرحيم بوعبيد، وهكذا تكلم بنسعيد لمحمد بنسعيد آيت إيدر، وأحاديث فيما جرى لعبد الرحمن اليوسفي، ويوميات العمل الوطني المسلح لعبد السلام الجبلي، والمغرب الذي عشته لعبد الواحد الراضي. وحظيت هذه المساهمات بتمهيد نظري من خلال قراءة في كتاب ميلونكوليا اليسار: الماركسية، التاريخ، والذاكرة لإنزو ترافيرسو. مجلة رباط الكتب تفضلت بتقاسم ثمار هذا اللقاء مع قراء «أخبار اليوم»، والتي تنشرها على حلقات.

سمير آيت أومغار

لقد ظل عبد السلام الجبلي متعلقا عاطفيا وسياسيا في تذكره لوقائع مرحلة الحماية بعبد لله إبراهيم، بحكم الصلات القوية التي وُجدت بينهما، فهو يقول: “وفي بعض الأحيان أخرج من المنزل مقتفيا قادة الحركة وعلى رأسهم عبد الله إبراهيم” (ص.35)، وقوله “وسيكون لمحاضرات عبد الله إبراهيم بعد عودته في 1949 من فرنسا الدور الأهم في الانتقال من العمل السياسي إلى المقاومة والكفاح المسلح” (ص.36)، زيادة على تأكيده أن “محاضرات الأستاذ عبد لله إبراهيم وهو الرجل الألمعي مستفيضة، فضلا عن جوابه عن كل الأسئلة بترَوٍ وبشرح مستفيض خلال الاجتماعات التي حضرتها مع باقي الإخوة” (ص.42)، وهي المحاضرات التي سيتأثر بها كثيرًا حسب منطوق يومياته (ص.61). وبالتالي نجد عبد لله إبراهيم قد تحول إلى ذلك المسدس الذي استأثر بانتباه الشاهد عبد السلام الجبلي دون بقية العناصر الأخرى المكونة للمشهد السياسي، والتي رغم استحضاره لبعضها في كتابه، إلا أنها ظلت خافتة كالشبح. فتحيزات الجبلي واضحة في تسجيله لذكرياته التي تأثرت كثيرا بميوله إلى عبد لله إبراهيم. من جهة أخرى، نشير إلى تسرب مجموعة من الأحكام المسبقة عن نظام الحماية الفرنسية إلى ذكريات الجبلي، فهو يقول: “لم تعرف المرحلة الاستعمارية تطورا شاملا في المجال الطبي، فقد اتخذ مسارا بطيئا جدا” (ص.17)، وقوله: “جلبت معاهدة الحماية العار والبؤس للمغاربة، إذ أن الاستعمار قسم المغرب إلى نافع وغير نافع، ونشر الدعارة وقننها” (ص.21). مقابل صمته وحذره الشديد عند حديثه عن الباشا التهامي الكلاوي المزواري رغم أمره بجلده ثلاث مرات. فهو لم ينعته في كتابه بأي وصف قدحي على شاكلة مؤسسات الحماية الفرنسية.

كما لاحظنا من خلال قراءتنا للكتاب، تحيز عبد السلام الجبلي في ذكرياته لمدينة مراكش، وبالتحديد لحَيِّه ومنزله الذي نشأ فيه دون سائر الأحياء (يؤكد المؤلف الطابع الأندلسي للحي الذي نشأ فيه، واستقرار ابن البناء العددي في منزل أسرته زمن حكم بني مرين). فهو يقدم مراكش كمهد للوعي والعمل الوطنيين، ويعتبر أحداث شتنبر 1937م في مراكش (إخراج الجياع والفقراء لاستقبال بول رامادي والجنرال نوگيس) “أول الأحداث النضالية التي شكلت منعرجا تاريخيا لمقاومة الاستعمار، وبداية تأسيس مسلسل النضال الوطني” (ص.22). أما الاجتماع التنظيمي لهذه المُظاهرة فقد جرى في منزل الجبلي لا غيره (ص.21). ويعود عبد السلام الجبلي في إحدى الصفحات إلى القول إن “الحركة الوطنية في مواجهة الاستعمار، ابتدأت منذ 24 شتنبر 1937، حيث اشتعلت شرارتها بمراكش” (ص.53)، مع عدم قبوله بأي تاريخ آخر كما يُفهم من قوله: “الحركة الوطنية التي يمكن إرجاع بدايتها إلى أحداث 24 شتنبر 1937 بمراكش، أو حركة اللطيف في 16 ماي 1930 عند البعض” (ص.55). تحمل هذه الذكريات مجموعة من المواقف السياسية التي كوَّنها عبد السلام الجبلي زمن الحماية وبعد الاستقلال، والتي انعكست بشكل واضح على ذكرياته التي شرع في استرجاعها عند حوار عبد لله العلوي له.

ولنختم بهذه الحادثة الطريفة التي وقعت للجبلي في الرباط: فهو يذكر أنه استدعي إلى الرباط للحسم في النزاع حول الشخص الأجدر برئاسة جمعية أبناء الشهداء، فيقول: “وذهبت إلى الديوان الملكي، حيث استقبلني مدير الديوان المرحوم مسعود الشيكر. وكنت أدخن سيجارة، حين سمعت ضجة في الباب فإذا بالأمير مولاي الحسن يدخل حاملا سيجارة، وبعد السلام استفسرني عن الموضوع” (ص.97). يتضح لنا من خلال هذا النموذج أن ذاكرة الجبلي لم تتمكن خلال هذا اللقاء من تسجيل تفاصيل كثيرة، لكنها احتفظت بشكل مثير للانتباه بحمله والأمير مولاي الحسن لسيجارة، دون إبراز المغزى من تذكر هذا النوع من التفاصيل.

تجدر الإشارة في النهاية إلى بعض الملاحظات الشكلية حول الكتاب الذي تولى عبد لله العلوي تحريره بناء على لقاءاته بعبد السلام الجبلي. فقد تسللت بعض الأخطاء اللغوية المطبعية وغيرها إلى متن الكتاب، كتسمية تازناخت في 7 مواضع بـ “تازناقت” (ص.54، 60، 62…)، وتحريف جُل أسماء المقيمين العامين في المغرب باللغة العربية: مثل: ثيودور سينغ (Théodore Steeg)، هنري بوسو (Henri Ponsot)، بيبربواي دولانور (Pierre Boyer de Latour)، إلخ…) (ص.117-116)، زيادة على وضع مجموعة من الهوامش للكتاب، تضمنت تواريخ الأحداث السياسية الكبرى في المغرب، والتي لا تتصل في جلها بمضامين الكتاب، مثل تاريخ تشييد مراكش من طرف أبي بكر بن عمر اللمتوني، واحتلال الجيش الفرنسي لمدينة وجدة سنة 1907م، وتنازل مولاي عبد الحفيظ عن العرش سنة 1912، وانعقاد مؤتمر أنفا سنة 1943، وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 1971. وبالتالي، وجب أخذ الحيطة والحذر عند كل استغلال لمذكرات أو يوميات فاعل سياسي، لاشتمالها على ذكريات ملوثة وأحكام مسبقة، وانحيازها إلى بعض الأفراد دون البعض الآخر تبعا للميول السياسية والفكرية لصاحب المذكرات.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *