“نغوغي واثيونغو”، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل”، يدافع “واثيونغو”، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل.
تميز العالم الإفريقي ما قبل الاستعماري بمراحل تطوره الاجتماعي المختلفة بين المناطق والشعوب المتنوعة، على العموم بانخفاض مستوى تطور القوى المنتجة. ومن ثمة، هيمنت عليه طبيعة مستغلقة ومتقلبة، أو بالأحرى طبيعة لا تقبل المعرفة إلى حد ما إلا عبر الطقس والسحر والعرافة. وأمكنت مواجهة هذه الطبيعة، المجهولة على نحو واسع والعدائية إلى حد كبير، عبر استجابة جماعية ونظام اجتماعي متماسك، قد يكون قاسيا في بعض ممارساته، لكنه إنساني، كذلك، في علاقاته الشخصية ووعيه بالمسؤولية المتبادلة بين أعضائه. وقد انعكس هذا العالم في الأدب الذي أنتجه، بمزيجه بين شخصيات حيوان وأنصاف إنسان وأنصاف حيوان وبشر، جميعهم متمازجين ومتفاعلين في تأقلم مع الريبة المتبادلة والعداء والمكر، لكن في لحظات تعاون عابرة كذلك. وانعكست الصراعات الاجتماعية في نوع آخر من الأدب، ذاك المتعلق بالسرديات الشعرية الملحمية التي تخلد بطولات الملوك والرجال الاستثنائيين الذين خدموا المجتمع في أوقات الحرب أو الكارثة. إلا أن صراعات هذه المجتمعات الداخلية والخارجية، ومن ثمة تطور قواها المنتجة وتحكمها التدريجي في الطبيعة، أعاقهما في الغالب الاسترقاق الأوروبي الذي خرب الفلاحة القائمة، مما اضطرها إلى الهجرة والحركات الجماعية. لكن الإمبريالية عرقلت وشوهت تطورها الطبيعي على نحو مأساوي. صحيح أن الإمبريالية استقدمت- بإرثها من العلم والتكنولوجيا المتطورين للغاية وقواها المنتجة المكدسة والهائلة، وبإعادتها تنظيم عمل الملايين في كنف الرأسمال التجاري والصناعي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر- إلى إفريقيا إمكانيات معرفة عالم الطبيعة ذاك. لكنه حرم الأعراق والشعوب المحتلة، في الآن عينه، من وسائل معرفة ذلك العالم والتحكم فيه. في المقابل، صودرت أراضيها، وقَتلت شعوبَها حضارةٌ كانت قد أبادت سكانها وحضاراتها في أمريكا ونيوزيلندا وأستراليا. هكذا، سلبت منهم وسائل وأساس تنظيم حيواتهم تنظيما متدرجا. إذ دُمرت النظم المستحدثة من أجل التعامل مع الطبيعة وتعامل الناس فيما بينهم في الغالب، حيث البشر تحت رحمة نظام اجتماعي أشد قسوة وأعوص من الطبيعة نفسها، في فوضاه ولامنطقيته وتناقضاته.
وقد سعت إعادة العمل في ظل الفلاحة والصناعة الرأسماليتين، على سبيل المثال، إلى الإنتاجية وإمكانات الثروة على درجة لم تعرف، من قبل، في النظم الإقطاعية والكوميونية. لكن النظام الاستعماري ضمن، عبر إيديولوجياته العنصرية القمعية، أن تتملك أيدٍ قليلة، من البيض في الغالب، تلك الثروات تملكا خاصا. هكذا، تسببت الإمبريالية في الفقر الجماعي والتخلف العابر للمناطق. وأنتجت الرأسمالية الوفرة وإمكانيات التغلب على الجوع، لكنها أمّنت الجوع والمجاعة الجماعية بدرجة لم تعرف من قبل. وأنتجت الرأسمالية وتطور العلم التكنولوجيا إمكانيات لقهر الطبيعة، إلا أن الرأسمالية ضمنت، باستعمالها واستغلالها المطلقين للموارد الطبيعية، الهيمنة الافتراضية لتلك الطبيعة على الإنسان عن طريق الجفاف والتصحر. وأدخلت الرأسمالية علما طبيا جديدا للتغلب على الأمراض، لكنها أبقت، عبر وصفتها الانتقائية للرعاية الطبية، في المستعمرات على الأقل، على ساكنة ينخرها المرض صارت تفتقد إلى مساعدة العشابين ومعالجي النفوس الذين أدينت ممارساتهم باعتبارها عملا شيطانيا.
وكانت هناك مفارقات أخرى. فقد أدخل الاستعمار، عبر بعثاته المبشرة بإيديولوجياته، الكتابة إلى العديد من اللغات الإفريقية. إذ كان من الضروري أن تصل رسالة الخضوع الإنجيلية والأوامر الإدارية بالعمل والضرائب وأوامر الجيش والشرطة بقتل المتمردين إلى السعاة المحليين مباشرة. وأدخلت الإمبرياليات المتنافسة وممارسة “فرق تسد” الاستعمارية تمثيلات متناقضة على النظم الصوتية في اللغة الواحدة ذاتها، ناهيك عن لغات أفريقية مماثلة داخل الحدود الاستعمارية نفسها. فعلى سبيل المثال، للغة الـ”جيكويو” إملاءان متنافسان طورهما المبشرون البروتستانت والكاثوليك. وقبل أن يصحح هذا الأمر، كان من الممكن أن يعيش طفلان يتكلمان الـ”جيكويو” موقفا يكونان فيه غير قادرين على قراءة رسائل بعضهما أو كتاباتهما. كما أدرجت الإمبريالية التعليم، لكنها حصرته في الغالب على الكتبة والجنود والشرطة والموظفين المدنيين الصغار وطبقة السعاة الناشئة التي كنت أريد أن أحدث طلابي عنها. من هنا، لم تستطع الجماهير أن تقرأ، ولا أن تكتب، حتى عشية الاستقلال.
كما أدخلت الأمم الإمبريالية آلة الطباعة وإمكانيات النشر الموجه إلى جمهور أوسع. فعلى سبيل المثال، أسست في المناطق الخاضعة للاستعمار البريطاني، في شرق إفريقيا ووسطها على الخصوص، مكاتب أدبية ذات سياسة متنورة محمودة تروم النشر باللغات الإنجليزية والأفريقية. لكن الإمبريالية حاولت أن تراقب المحتوى الذي تحمله تلك اللغات. إذ منعت المنشورات بطريقة مباشرة عبر قوانين ترخيص حكومية أو غير مباشرة عبر الممارسات التحريرية لتلك المطابع التي تسيرها الحكومة أو البعثات التبشيرية. ومع ذلك، طلب من اللغات الإفريقية أن تحمل رسالة الإنجيل. وحتى حكايات الحيوان المستقاة من التراث الشفاهي، التي نشرتها تلك المطابع في كتيبات، اختيرت في الغالب بعناية كبيرة حتى تُحمَّل الرسالة الأخلاقية والتضمينات التي تكشف ما تفعله الإصبع المعصومة لرب أبيض بشؤون الإنسان.