-->

المصطفى روض: منزل سليمان الريسوني ورش ثقافي لضيوفه

31 يوليو 2020 - 07:00

في كتابه الرائع، «في هذا أعتقد»، يُعرف الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس الصداقة بالقول: «إنها الرابط الأول الكبير بين المنزل والعالم»، مشبها المنزل بـ«حجرة الدرس لحكمتنا الأصلية، لكن الصداقة هي دليلها».

ويتقاطع هذا المعنى تماما مع مشاعري وأحاسيسي القوية التي انبثقت منذ اللحظة التي أصبح فيها سليمان الريسوني صديقا لي، إذ يعززه «فوينتس» بمزيد من التحديد حين يؤكد أن «ما لا نتوفر عليه، نجده في الصديق».

وقبل أن أتعرف على الريسوني، لم أكن في حاجة إلى أصدقاء جدد، لأن لي من الأصدقاء ما يزيد على الحاجة الصداقية، ومع ذلك، انبثقت صداقة كبيرة معه انطلاقا من منزله الكائن بمرس السلطان بعدما تعرفت عليه أول مرة، عند عودتي من التشيلي، بمقهى موريتانيا بحي الحبوس في الأيام الأولى من شهر رمضان لسنة 2017، ويعود الفضل في التعارف معه إلى بعض أصدقائي الذين كانوا يتحدثون له عني باستمرار.

إذ عندما وصل تلك الليلة المعلومة إلى المقهى رمقناه وهو ينزل من دراجته الهوائية، ربطها بإحكام وتقدم إلى طاولة الأصدقاء، وفي هذه اللحظة، وبعدما قدمني إليه الأصدقاء، وجدته يعرفني عن بعد من خلال ما كانوا يحكونه له عني بالطبع. ومنذ ذلك اليوم، كان، وبروح كريمة، يدعوني وأصدقائي لزيارته في منزله، حتى إنه أحيانا يطلب مني المبيت في منزله دون حرج لكي أتفادى عناء العودة متأخرا إلى حي بورغون.

ومن داخل بيته كنت أكتشف كل مرة الريسوني الصحافي الخلوق والمثقف والإنسان.. وكنت أستمتع بنقاشاته في مواضيع لا حصر لها وفي مختلف الحقول، خاصة منها السياسية والصحافية والثقافية؛ وضيوفه من الأصدقاء كان يتقاسم معهم ما لذ وطاب من أكل ونقاش عميق، كنت أحس حينها بأن سليمان يسكنه الفرح وهو يُحوّل بيته إلى فضاء يستنشق فيه، كل من سنحت له فرصة الحضور، أوكسجين الثقافة.

وفيما بعد بدأت أكتشف، فضلا عن كرمه وإنسانيته وثقافته الواسعة وعشقه الكبير لمختلف حقولها، أنه لم يكن مجرد صحافي يهتم بالسياسة على غرار الكثير من الصحافيين، إنه مولع حد العشق بكل ما له صلة بالفكر والأجناس الأدبية والموسيقى والتراث، ولن أبالغ إذا قلت إن الريسوني صحافي بمرتكزات ثقافية يغلب عليها الطابع الموسوعي، لذلك، كانت مقالاته في المواضيع السياسية تعكس هذه الخاصية، حيث تارة يغرف أمثلة لتعزيز وتقوية تحليلاته بأبيات سواء من الشعر المعاصر أو القديم، وتارة أخرى من نظريات وأفكار فلاسفة، وأحيانا يستخدم التوثيق، خاصة ما له علاقة بالتاريخ لكي يعطي تحليلاته مصداقية يعزز بها موقفه ورأيه السياسي.

من داخل بيته، الذي كان فعلا حجرة درس للحكمة الأصلية، أصبحت دليلا لصداقة كبيرة، توطدت وتطورت إلى مستوى عال، إذ بدأت أشعر بأن منزل الصديق الريسوني منزلي، حتى إنه سمح لي باقتحام المطبخ بمجرد أن علم بأني أتقن الطبخ، وكانت زوجته، الأخت الفاضلة خلود، تساعدني في إعداد ما يتقرر من وجبات، وهي كانت شاهدة على تطور مسار علاقتي الصداقية معه، والمطبخ في المنزل مفتوح على الصالون الذي يحضن مكتبة مهمة تحتوي على كم هائل من أمهات الكتب المتنوعة، ويوفر فضاء للجلوس فيه قصد تناول وجبات الأكل إذا رغب الضيوف في الاستغناء عن الجلوس في الصالون.

لكن الذي جعل الريسوني يربط منزله بعوالم الأدب والفكر والسياسة، هو وجود حساسية ثقافية قوية لديه تصل إلى حد الهم بمعناه الشامل، وهو ما جعل منزله يتحول إلى ورش ثقافي يجد فيه كل صديق أو ضيف ذاته. وانطلاقا من هذا الورش، سأقترح على الريسوني، في إحدى الليالي، أن أساهم معهم في كتابة مقالات بموقع «الأول»، عندما كان رئيسا لتحريره، حول الأحداث السياسية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وكانت مساهماتي محفزا قويا لتطوير علاقتنا الصداقية ولمتابعة التنسيق في المواد التي كان يحتاج إلى نشرها.

كان الريسوني داخل الورش الثقافي المنزلي يتحرك بديناميكية مثل نحلة تحوم على الزهور بحثا عن الرحيق، فهو يساعد زوجته في المطبخ، وينقب في الأنترنت على نوع الأغنية التي يريد أن يسمعنا إياها، وهو مشغول بكتابة مقال لموقع «الأول» بعدما وصلته معلومات من مصادره الخاصة عن حدث ما عبر الهاتف، وهو يبحث عن نص شعري كان يضطر إلى قراءته عند نهاية المناقشة؛ وفي إحدى الليالي، خصني بقراءة نص شعري جميل في حضرة الأصدقاء، ويتعلق الأمر بقصيدة «جبل الباروك» التي كتبها الشاعر اللبناني شوقي بزيغ عن شهيد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط، وسبق لمارسيل خليفة أن غناها، فيما خَصّصتُ له وللفاضلة خلود «هدية» رمزية بعد زواجهما، حيث طلبت من الأصدقاء توقيف النقاش انضباطا للحظة تقديمي لما اعتبرته «هدية»، وذلك بأن رقصت رقصة «ريغيتون» على إيقاع أغنية «لا طورتورا» التي تغنيها المغنية الكولومبية «شاكيرا» رفقة المغني الإسباني «آليخاندرو سانس»، والتي يقول مطلعها: «يا فتاتي الصغيرة، احتفظي بالشعر، واحتفظي بالفرح لأجلك»، وحاولت فيها أن أتماهى جيدا مع الإيقاعات، وأتحكم في خطواتي وحركاتي لكي يكون للرقصة معناها الفني الذي أردت من خلاله أن أعبر لهما عن فرحتي بزواجهما.

ويوم وصلني خبر اعتقاله بتلك الطريقة المهينة والحاطة بكرامته والمنتهكة لحقوقه، أصبت بتأثر شديد، على غرار الكثير من أصدقائه وزملائه الذين يعرفون الريسوني جيدا، كما يعرفون أخلاقه العالية وقيمه الإنسانية والثقافية الراسخة. وبالطبع، الاعتقال يدخل في إطار أسلوب مكشوف تصفي من خلاله أطراف في الدولة حساباتها مع الأقلام الصحافية المستقلة والحرة، خصوصا عندما يظهر لها أن مقالاته تجاوزت الحدود المرسومة من لدنها، وهذا الأسلوب لن يفيد الدولة في شيء، بل سيزيد في توريطها، ويسبب لها الارتباك والتخبط والإساءة إلى سمعتها، فضلا عن أنه لن يمكنها من تجفيف منابع حرية التعبير والديمقراطية الفعلية.

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي