عبد الرحمان المودن... مؤرخ العلاقات المغربية العثمانية

07 أغسطس 2021 - 15:10

فتيحة المسعودي*

نظم ثلة من المؤرخين والباحثين المغاربة يوما دراسيا بتاريخ 16 يوليوز 2021 لإحياء ذكرى مرور سنة على وفاة المؤرخ المغربي عبد الرحمن المودن رحمه الله بتاريخ 02 غشت 2020، مستغلين هذه المناسبة لتقديم أعمال مهداة للفقيد شُرِع في إنجازها قيد حياته، وستصدر قريبا في شكل كتاب جماعي « بحوث ودراسات في تاريخ العالم الإسلامي »، والتعريف بمشروع ترجمة أطروحة الفقيد التي أنجزها تحت عنوان « الشريف والبادشاه » من الإنجليزية إلى العربية، بعدما قام رحمه الله بمراجعتها قصد النشر في صيغتها المترجمة. إضافة إلى التنويه  بالكتاب الجماعي المهدى إلى روح الفقيد « عتبات مؤرخ، مسار عبد الرحمان المودن »، الذي يحكي عن مسار مؤرخ مغربي قل نظيره؛ إنسانا خلوقا وباحثا في قضايا التاريخ ومحاضرا بالجامعات الوطنية والدولية ومؤطرا للباحثين بها. بينما نظمت أسرة الفقيد وجملة من أصدقائه وزملائه الأساتذة وطلبته حفلا تأبينيا ببيت الفقيد في اليوم الموالي (17 يوليوز 2021) للترحم عليه وتذكر بعض من فضائله.

حياته: ولد الأستاذ عبد الرحمان المودن بزاوية سيدي عبد الجليل بإقليم تازة عام1946، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدينة فاس. وخلال هذه المرحلة شغف بالأدب، واهتم ببعض أسئلة الفلسفة الحديثة، وارتبط برفيقة عمره مينة المادني، وتعرف على ثلة من الأصدقاء الذين رافقوه وشاركوه اهتماماته العلمية والمعرفية مثل عبد الحي الديوري وعبد الأحد السبتي. ثم التحق سنة 1966 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وتسجل في آن واحد بشعبة التاريخ والجغرافيا وبالمدرسة العليا لأساتذة التعليم الثانوي، فنال شهادة الإجازة في التاريخ سنة 1970 ودبلوم الدراسات العليا سنة 1984. وخلال تكوينه بالجامعة تعرف على عدد من الأساتذة الأجانب منهم جان برينيون وبرنارروزنبر جيه ودانيال ريفيه ودانيال نوردمان، الذين أثروا في تكوين الطالب الشاب بفضل انفتاحهم الفكري وحداثة تكوينهم المنهجي، ومساهمتهم في تجديد كتابة التاريخ. وتأثر أيضا بمنعطفات تاريخية وطنية ودولية منها أحداث 23 مارس 1965 وهزيمة يونيو 1967 في المشرق العربي. وانخرط خلال هذه المرحلة (1966 – 1970) بشكل فعال في نضالات « الاتحاد الوطني لطلبة المغرب »، ثم تابع نضاله لاحقا من خلال « النقابة الوطنية للتعليم الثانوي » التابعة للاتحاد المغربي للشغل.

أعماله: اهتم الفقيد بتاريخ مغرب القرن 19 في إطار تجديد كتابة التاريخ الوطني، وخصوصا التاريخ المحلي للبوادي لإعادة الاعتبار للهامش، فأنجز رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، حصل عليها سنة 1984. اهتم فيها بكتابة تاريخ منطقة وادي إيناون، مسلطا الضوء على جوانب جديدة من علاقة السلطة المخزنية بالمجتمع المحلي، منفتحا على الأنثروبولوجيا لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية والاقتصادية. وأصدر رحمه الله هذه الرسالة في شكل كتاب سنة 1994 يحمل عنوان: « البوادي المغربية قبل الاستعمار، قبائل إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر »، وألف دراسات عديدة حول تاريخ المغارب خلال الحقبة العثمانية، من أهمها: »البادشاه والسلطان: العلاقات المغربية العثمانية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر »، وهي أطروحة لنيل شهادة دكتوراه الدولة من جامعة برينسطون بولاية نيو جرسي، معتمدا فيها مفهوم « الثقافة الدبلوماسية ».

كانت رحلة الفقيد إلى الولايات المتحدة الأمريكية فرصة، سمحت له بالانفتاح على نظام تدريس جامعي مغاير بفضل تمكنه من اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة التركية والعثمانية اللتين اقتنع بأنهما أداتان أساسيتان في دراسة مجتمعات الشرق الأوسط والعالم العربي. وهكذ انتقل إلى حقل العلاقات الدولية داخل المجال الإسلامي، فاهتم بدراسة العلاقات المغربية العثمانية خلال الفترة الحديثة موظفا في ذلك وثائق الأرشيف العثماني إلى جانب المصادر المغربية والأرشيف الأوربي. وراجع جملة من الصور والمسلمات السائدة حول علاقة المغرب في العهدين السعدي والعلوي مع السلاطين العثمانيين. ثم وسع اهتماماته بالعلاقات الدبلوماسية لتشمل بلدان المغارب في العهد العثماني، ويتجلى ذلك في أعمال الندوة المنعقدة سنة 1992 تحت إشرافه رحمه الله. كما ساهم بدراسات وأبحاث في ندوات وكتب مشتركة ومجلات محكمة وغير محكمة وطنية ودولية، وأشرف على عدة أعمال ونسقها في شكل ندوات وكتب وحلقات دراسية. وساهم المودن تولاه الله برحمته في هيئة تحرير مجلة هسبريس– تمودا، وترأس « الجمعية المغربية للبحث التاريخي » بين سنتي 2007 – 2011، وساهم في الفريق الذي تولى إعداد أعمال « المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب » للنشر.

التدريس: حاضر الفقيد في عدد من الجامعات الأجنبية؛ مثل الجامعة الزراعية والتقنية في نورث كارولينا، وجامعة برنسطون بأمريكا، والجامعة الحرة ببرلين، وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، والمدرسة العليا للأساتذة بنواكشوط، ومعهد الدوحة للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، إلى جانب تدريسه في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وجامعة الأخوين بإفران. وعمل منذ التحاقه بسلك التدريس الجامعي على تشجيع العمل الجماعي، ولم يتردد في اتخاذ مبادرات تخدم هذا الاتجاه؛ فشارك بداية في إنشاء « مجموعة البحث في التاريخ الاجتماعي المغربي » التي خلقت حوارا مثمرا بين الباحثين الشباب في حقول التاريخ والعلوم الإنسانية، وأحدث عندما تولى رئاسة شعبة التاريخ أعرافا تشجع على التبادل بين الأساتذة في مجالات اهتماماتهم ومشاريعهم العلمية، وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي أسس الفقيد إلى جانب بعض زملائه ومن بينهم المرحوم عثمان بناني وعبد الرحيم بنحادة وعبد الحفيظ الطبايلي وحدة التكوين والبحث « المغرب والعالم العربي الإسلامي »، دفع من خلال هذا الإطار الجديد الطلبةً والباحثين إلى الاهتمام بتاريخ المغرب الكبير والمشرق العربي والمجالين العثماني والإيراني. ونشط الفقيد عبد الرحمان المودن في نفس السياق لقاءات علمية تحت اسم « مسارات في البحث »، استقبلت خلال الفترة الممتدة بين 1998 و2005 باحثين مغاربة وعرب وأوربيين وأمريكيين ويابانيين انتموا إلى حقول العلوم الإنسانية وعلى الخصوص التاريخ، بهدف تبادل الخبرات وتجارب البحث بين الطلبة والباحثين والأساتذة الجامعيين. واقترح الفقيد عملية مندمجة بين كلية الآداب بالرباط ومختبر « دراسات مغاربية » بجامعة 9 أبريل بتونس، ساهمت هذه المبادرة في تعزيز فريق « المغرب والعالم العربي الإسلامي »، وعملت على تبادل الأساتذة والطلبة الباحثين بين الجامعتين، وإقامة تعاون بناء بين مجموعة من المؤرخين على مستوى المغرب الكبير، وبناء برامج بحثية ولقاءات علمية مشتركة وجدت طريقها إلى النشر.

وهكذا، تميز مسار الأستاذ المودن رحمه الله بتجارب متعددة على مستوى التكوين والتدريس، بفضل تنوع الفضاءات التي اشتغل فيها، فتعرف على المناهج المعتمدة في المدرستين الفرنسية والأنجلوساكسونية، وتعمق في تجربة البحث في التاريخ الاجتماعي المغربي ثم انتقل إلى المجال العربي العثماني، منفتحا على التوجهات الجديدة في البحث التاريخي بل ومجددا للكتابة التاريخية، ومشجعا للباحثين الشباب على الاستئناس بهذه التوجهات وخوض غمارها، داعما لهم في مشاريعهم البحثية، محافظا على شيمه التي قل نظيرها؛ فقد كان رحمه الله مؤرخا رصينا متسامحا هادئا ملتزما بإنسانيته وبواجباته باحثا أكاديميا وأستاذا جامعيا ومشرفا على البحوث الجامعية، حريصا على نشر العلم والمعرفة مؤمنا بالرسالة التربوية العظيمة، ناكرا للذات غير محب للظهور يفضل الاشتغال في الظل بعيدا عن الشهرة، وما ذلك إلا تواضعا منه رحمه الله، تاركا وراءه أثرا عظيما من العلم ستظل الأجيال القادمة تنهل منه.

 

*أستاذة التاريخ والجغرافيا بالتعليم الثانوي وحاصلة على الدكتوراه في التاريخ تحت إشراف المودن

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

نسرين الصافي منذ سنتين

كان أستاذا عظيما بغزارة علمه وسموّ مبادئه ونبل أخلاقه وتواضعه الكبير وإنسانيته وحبّه لطلبته... اللهم تغمّده برحمتك الواسعة وأسكنه فسيح جنانه...

التالي