وقلت إن الملك محمد السادس وضع دستورا متقدما سنة 2011 تجاوبا مع مطالب الشباب والحراك المغربي، لكننا اليوم نرى الأحزاب التقليدية والنخب التي يسميها الأنتربولوجي المغربي، عبد الله حمودي، بالنخب المولوية، تجر الملكية إلى الحقل التقليدي، وتريد أن ترجعها إلى الخلف، مرة بدعوتها إلى التحكيم بين الأحزاب المتصارعة على كعكة السلطة، ومرة بإعطاء الملكية صلاحيات التعيين في مناصب لم يتحدث عنها الدستور ولا القانون التنظيمي الذي حدد سلط التعيين في المؤسسات الاستراتيجية (مثل رئاسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، رئاسة الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، الوكيل العام للملك في محكمة النقض…). شباط اليوم يدعو القصر إلى التحكيم وإلى دخول مستنقع الخلافات السياسية بين الأحزاب، وفوق هذا يخرج ويقول: «إنني أنتظر رد الملك في أقرب وقت ممكن». يا سلام! صبر الزعيم نفد ويريد جوابا فوريا من الشباك الوحيد في القصر…
أمس اطلعت على فيديو النشاط الملكي في مدينة تاوريرت على اليوتوب، وفيه يظهر عامل المدينة وهو ينحني راكعا بين يدي الملك بطريقة غريبة دفعت الملك إلى الاقتراب منه والحديث إليه. ولم تنقل الكاميرا فحوى حديث الملك.
أيا يكن الأمر، فإن رجل السلطة الأول في مدينة تاوريرت أخطأ عندما بالغ في إظهار الولاء والطاعة والاحترام بين يدي الملك. وأمثال هذا العامل كثيرون في وزارة الداخلية والإدارة والمؤسسات العمومية ومختلف أجهزة الدولة. هؤلاء المتشبثون بالطقوس المخزنية العتيقة وحماة التقاليد البالية، ليسوا أكثر ولاء للعرش من سواهم، ممن يدافع عن صورة حديثة للملكية. الكثير من حراس المعبد يستعملون ورقة التقاليد المرعية والوجه التقليدي للمؤسسات من أجل الدفاع عن مصالحهم ومواقعهم وامتيازاتهم. انظروا إلى عبد الحنين بنعلو، وكيف حاول أن يوظف الأوسمة الملكية على صدره وصوره مع الملك للدفاع عن حصيلته الكارثية في تدبير المكتب الوطني للمطارات، حسب تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وهو الآن بين يدي القضاء، الذي سيقول الكلمة الفصل في مصيره.
منذ فتحت عيني على السياسة في هذه البلاد وأنا أرى وأسمع إدريس البصري، وزير الداخلية السابق، يتحدث عن الصحراء مقرونة بوصف المغربية، وكان يبدي تشددا صارما في موضوع الوحدة الترابية وهو في عرين الداخلية، وكم اتصل بصحافيين وسياسيين ونقابيين ينبههم ويحذرهم من أي تهاون في الدفاع عن مغربية الصحراء، ونشر خرائط المغرب التي تضم الأقاليم الجنوبية في الصحراء، وليس الخرائط الدولية حيث يوجد خط بين المغرب وصحرائه يعبر عن أن المناطق مازالت في حيز الأراضي المتنازع عليها. لكن عندما انتقل البصري إلى المعارضة، وأصبح مهاجرا شبه سري في باريس، أصبح يتحدث إلى وسائل الإعلام الجزائرية، ويقول عن الصحراء إنها غربية. وهذا ما يكشف عن انتهازية ليس لها حدود من رجل سلطة كان يقدم نفسه كخادم للأعتاب الشريفة، وكواحد من جنود القصر في الصحراء، هذا في الوقت الذي رفض فيه أكبر معارض للحسن الثاني، الفقيه محمد البصري، وهو آنذاك لاجئ في الجزائر ومحكوم بالإعدام في المغرب، مشروع الرئيس هواري بومدين لخلق كيان مستقل في الصحراء كبؤرة ثورية لمحاربة النظام الملكي في الرباط، فمن كان أكثر ولاء للوطن وللملك بين البصريين؟!
أنا أحترم أي رأي مهما كان محافظا أو جامدا، أو حتى رجعيا بلغة اليساريين، لأن المسألة في نهاية الأمر نسبية وليست مطلقة، لكني لا أحترم من يدافع عن أفكار مهما كانت لمجرد أنه في موقع السلطة أو في كرسي المعارضة وشعاره: «الله ينصر من أصبح».
يحكي المؤرخون عن خطيب جمعة في المناطق الجنوبية وجد نفسه في ورطة زمن الاستعمار بين أنصار المقاوم أحمد الهبة، الذين كانوا يطالبون الفقيه بالدعاء بانتصار المقاومة على المستعمر في خطبة الجمعة لتحفيز الناس على الجهاد، واعترافا بمشروعية الثوار، وبين السلطات الفرنسية التي كانت توصي الخطباء بالدعاء للسلطان مولاي يوسف الموالي، آنذاك، للإقامة العامة، تعبيرا عن الانحياز للوضع القائم. ولما وجد الخطيب نفسه في ورطة والمعركة لم تحسم آنذاك بين الطرفين، صعد إلى المنبر ثم خطب، وفي النهاية اهتدى إلى دعاء لا يورطه مع المقاومة ولا مع الاستعمار الفرنسي فقال: «اللهم انصر من انتصر».