فاتح يوليوز لم يكن موعدا روتينيا في تاريخ المغرب.. لم يكن استفتاء شعبيا على تعديلات بسيطة على الدستور الذي وضعه الحسن الثاني سنة 1962، وجعل منه خارطة طريق للملكية المطلقة. فاتح يوليوز كان ولادة تعاقد جديد بين الملك والشعب، ومناسبة لميلاد ملكية ثانية مختلفة جوهريا عن ملكية الحسن الثاني، التي كانت تعتبر الحكومات والأحزاب والنقابات والنخب والمجتمع المدني مجرد منفذين أو رعايا أو حتى خدم. الدستور الجديد، ورغم كل الملاحظات عليه، فتح أبوابا مشرعة لميلاد شراكة حقيقية في تدبير السلطة بين شرعية تاريخية يمثلها الملك، وشرعية انتخابية يمثلها الخارجون من صناديق الاقتراع، والهدف هو الوصول إلى عقد اجتماعي جديد بموجبه ندخل نادي البلدان الديمقراطية، وننهي حكاية الانتقال الذي لا يريد أن ينتهي.
هذا هو الوعد، وتلك هي الآمال التي كانت معقودة على دستور 2011، ولابد من هذا التذكير الآن حتى لا ننسى من أين أتينا، وإلى أين كنا سنسير، والآن، وبعد سنتين، هل وصلنا إلى نصف هذه الأهداف، إلى ربعها، إلى 10 في المائة منها؟
أولا، نحن البلاد الوحيدة التي لم تنشر فيها، إلى الآن، الوثائق التحضيرية لأشغال لجنة وضع الدستور، وهي وثائق مفيدة في فهم وقراءة وتأويل الدستور تستأنس بها المحكمة الدستورية والبرلمان والحكومة وفقهاء القانون الدستوري لمعرفة مراد المشرع.
ثانيا، نحن البلاد الوحيدة التي تشتغل إلى الآن بدستورين في الوقت نفسه. في البرلمان الآن غرفة ولدت من رحم دستور 2011 وغرفة من بقايا دستور 1996، وهذه الأخيرة (مجلس المستشارين) تشرع القوانين وتراقب الحكومة، وهي في حالة شرود دستوري فقط لأن حسابات «البازار» السياسي لا تريد إجراء انتخابات جماعية لإعادة تشكيل غرفة ثانية جديدة.
ثالثا، الحكومة متأخرة جداً في إعداد القوانين التنظيمية، والسبب هو الارتباك ورقابة الأمانة العامة للحكومة، التي تعتبر أن من حقها أن تشهر «الفيتو» على أي نص لا يعجبها، وغياب فريق قانوني متخصص في رئاسة الحكومة. إلى الآن المحكمة الدستورية لم تولد، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية لم يولد، وقانون سير الحكومة لم يولد، والقانون التنظيمي للمالية لم ير النور…
هذا ليس كل شيء، هناك إحساس بل دلائل كثيرة على أن الجناح المحافظ في كل مواقع القرار، في الدولة والأحزاب والبرلمان والحكومة، بدأ يضيق ذرعا بهذا الدستور، ويعتبر هذا الجناح السلطوي أن الدستور كان فلتة، وقفزة في الظلام، وأنه ما كان ضروريا أن تتنازل الملكية عن كل سلطها لصندوق الاقتراع الذي لن تخرج منه في العشر سنوات القادمة سوى لحى الإسلاميين، لهذا، وجب الاحتياط في تنزيله، واستعادة أكبر عدد ممكن من الصلاحيات، وسد الثغرات التي فتحت في النص الجديد.
الدستور ولد خارج إرادة الغالبية العظمى من النخب السياسية التقليدية، بما فيها حزب العدالة والتنمية، الذي رفضت قيادته الحالية المبادرة إلى الدعوة إلى إصلاحات دستورية، دعك من الأحزاب الأخرى التي كانت تقول إن دستور الحسن الثاني صالح لكل زمان ومكان، ولهذا فإن تغيير الدستور مع بقاء نفس الوجوه السياسية ونفس العقليات التقليدية ونفس النهج سائدا، تماما مثل تفتح وردة في الخريف، فهذا ليس دليلا على حلول الربيع.
الدستور المغربي مثل سيارة جديدة وقوية و«آخر موديل» وُضعت في يد نخب سياسية كانت تمتطي الدواب وتركب الحمير، وعندما ركبت السيارة الجديدة ضبطت سرعتها على السرعة القديمة.