هناك حيث تُسرق من الأطفال الأيدي التي تحمل اللعب وتستبدل -ذات اختلاس- بأيدٍ تثقلها الفؤوس، تستبدل الأرجل التي تلعب وتركض بأرجل تعرف طريقها كل فجر إلى جحيم الحقول وإلى تمرينات الحطب. هناك في مساحة عارية، مساحة الفقراء حيث العري، السلب، الانتهاك كصيغة للوجود، الاغتصاب كأكروباتيك، الحلم كوسيلة تعذيب، الجمال كاسم لما ليس له وقت، الأكل كخدعة، الحاجة كإبادة جماعية. هذه المفردات التي تكوي كل يوم حياة البسطاء هناك في الهامش المغربي، لفتت انتباه ثلة من الشباب الأمريكيين الذين جاؤوا متذمرين مما اعتبروه حياة قاسية ليكتشفوا أن شبابنا المغربي في أتون الهوامش يعيش تحت خط الجحيم.
أحد هؤلاء الشباب الأمريكي لفت انتباهه شيء طريف وهو يتناول الغداء مع مجموعة من شباب تلك البلدة النائية، حين وجد الجميع يأكل من طبق واحد فقال: تأكلون من طبق واحد وفيه قطع بطاطس وجزر ويقطين معدودة، ومع ذلك يأخذ كل واحد نصيبه، بحيث يأكل جزءا ويترك الباقي لغيره في تشاركية خفية غير معلنة، تشاركية كأنكم رضعتموها من أثداء أمهاتكم. أنتم سبقتم كل مواقع التواصل الاجتماعي إلى صيغة .«Partager»
فلسفة الحق هنا تمتح جوهرها من تشاركية اجتماعية تجعل من حق الآخر بابا لتذوق حق الذات واستحقاقه. التقاسم والتشاركية ترك مساحة للآخر لربح مساحة للذات، قيم أساسية يبدو أنها بقيت في الطبق، طبق الغداء، لكنها لم تتسرب إلى نسيج حياتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، لذلك فالسؤال الأكثر إلحاحا يتعلق بهذه الأطباق تحديدا، فلا يبدو في الأفق المنظور أن حزبا يفكر في الحزب الآخر، أو أن شريكا حكوميا يقيم الاعتبار لحق شريك حكومي آخر، أو أن فاعلا ثقافيا يرى أن رقعة الثقافة تتسع بالمساحة التي نتركها للفاعل الآخر.
المائدة السياسية المغربية تعانق فردانية قاتلة، فردانية القرار والتصور والتنزيل والتنفيذ. العائلة المغربية المتلاحمة كبرت حول طبق واحد، ومنه استمدت دفء الحضور وحرارة الهوية والوجود. إنها منطلق الحكاية ومورد البناء، بناء الذات وبناء الآخر. المشاهد المغربية في الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع تعلن طلاقا بائنا مع الطبق المغربي الواحد، لذلك لا ينبغي التذمر من تغير الطعم ومن جفاف اللحظة، فالأمر لا يعود لمكونات الطبق بل لتعدد الأطباق ولبرودة الحضور. الأكل المغربي يصنع مذاقه مغموسا في الألفة والتواصل، في الكلمات التي نتقاسمها والتي تتراقص مع بخار الطاجين وتتسلق جبل الكسكس العظيم.
الشباب الأمريكي يعرف حكاية الأطباق المفردة، حكاية الشوكة والسكين، المساحة الخاصة، الوجود الأنيق الذي يشبه بذلة قتلتها المكواة كي تقف لاحترام وجود افتعالي ميت، يعرف ذلك كله، ويدرك مرارة غياب ثقافة التقاسم. العائلة المغربية في الماضي كانت تعتبر باب الدرب هو مدخل كل البيوت، أما البيوت فلا أبواب لها والأولاد هم أولاد الجميع، بيوت منفتحة على بعضها البعض، متداخلة كما لو كانت قطعا في طبق واحد على مائدة واحدة.
سيعود أولئك الشباب الأمريكيون إلى بلادهم ولكن سؤالا جارحا سيؤلمهم: كيف لشعب يصنع ويتنفس ثقافة التشاركية والتقاسم أن يعدم في ساحات التهميش؟ كيف لشعب له طبق واحد أن يتحول طبقه الاجتماعي والثقافي والسياسي إلى طبق غير عادل؟ يوضع أمام البعض اللحم وأمام البعض الخضر وأمام البعض مرق الوجع والسؤال. فالحياة في الهامش موت لا يخضع للمشاركة، كيف إذن نتشارك في اللذة ونتفرد في الألم؟