لكن تصريحات الوزير نفسه، يوم الخميس 25 يوليوز، ستذهب إلى ما هو أعمق وأخطر، عندما اعتبر أن «الحكومة رجحت اختيار اجتهاد جديد يتعلق بإيقاف تعاملها مع مقترحات القوانين التنظيمية، «موضحاً أن «رئيس الحكومة والمجلس الحكومي كانا يتابعان أطوار مناقشة المقترح الذي تقدمت به بعض الفرق البرلمانية، إلا أن التفاعلات التي وقعت أدت إلى نقاش مراجعة تأويل المادتين 85 و86 من الدستور، ذلك أن المادة 86 تجعل هذه الولاية ذات طبيعة تأسيسية، وهو ما يجعل هذه القوانين تمر عبر مشاريع، أي عبر مجلس وزاري».
الوزير لم يدقق في أمر هذه «التفاعلات»، لكنه ذكر أن الأمر يتعلق بتفاعلات تهم «مؤسسات الدولة»! وبغض النظر عن المقصود فعلاً بهذه المؤسسات، وعما إذا كانت الأمانة العامة للحكومة مجرد قطاع حكومي تحت السلطة الرئاسية لرئيس الحكومة، أم مؤسسة من «مؤسسات الدولة»، أو أن المقصود جهة أخرى؟ فإن الواضح أن وزراء ما بعد دستور 2011 لا يزالون يستبطنون منطق الازدواجية بين الدولة والحكومة، التي سبق أن تحدث عنها عبد الرحمان يوسفي في خطاب بروكسيل، علماً أن تجاوز هذه الازدواجية شكل أحد المنطلقات الأساسية للمراجعة الدستورية.
لنلاحظ أننا، في غضون أسبوع، أي بين تاريخ انعقاد المجلس الحكومي في 18 يوليوز، الذي صادق على مشروع القانون التنظيمي المذكور، وبين تاريخ التصريح السابق لوزير العلاقات مع البرلمان، عشنا حالة تردد حكومي حول الموقف من تبني ذلك المشروع، بدءا من مؤشراته: غياب الوزير المعني عن المجلس الحكومي، وطبيعة جوابه داخل البرلمان عن سؤال في الموضوع، ثم تصريح الناطق الرسمي للحكومة عقب المجلس الحكومي الذي قلب الآية ليعيب على المعارضة «رغبتها» في مصادرة حق الحكومة في التشريع، دون أن يذهب إلى أبعد من ذلك، بالإضافة إلى خرجات عدد من قادة العدالة والتنمية الذين أشاروا بكل وضوح إلى أن الأمانة العامة للحكومة تقف وراء ذلك المشروع، وأنها تحمل في خلفية المشهد «رأياً» يجعل المبادرة التشريعية في مجال القوانين التنظيمية حكراً على الحكومة.
لننتقل بعد ذلك إلى حالة من التبنيٍ الحكومي الكامل لما سبق أن صُوِر كموقف منعزل للأمانة العامة أو لجهات غير واضحة المعالم.
إن موقف حصر المبادرة التشريعية في مجال القوانين التنظيمية على الحكومة، إذا كان يمكن مناقشته من حيث الملاءمة السياسية، فإنه لا يستحق النقاش من الناحية القانونية، سوى إدانته كخرق للشرعية، لأنه لا يرقى إلى وضعية الاجتهاد الفقهي، ولا إلى حالة التأويل الدستوري.
لذلك، فإن استحضار حجج أحقية النواب في التقدم بمقترحات قوانين تنظيمية، يبدو لي -عدا أنه دفاعٌ عن البداهة- كما لو أنه محاولة لتحويل انتهاك فاضح للشرعية، وخرق دستوري واضح، إلى مجرد «رأي» يستحق الجدل والنقاش والمحاججة.
إنني لا أملك أدنى وهمٍ حول السلوك المفترض لأغلبية الطبقة السياسية الحالية غير الموجودة داخل الحكومة، حيال أمر تنزيل الدستور، لو قُدر لها مباشرة مهام السلطة التنفيذية، ولست متأكداً من أن الجزء الكبير من هذه النخب، التي تعيش أزمة استقلالية حقيقية في قرارها السياسي، كانت ستنحو منحى أكثر حرصاً على تطبيق الدستور. حيث إن اختيار المعارضة، بالنسبة إلى البعض، خارج خدمة مراكز النفوذ والمعاكسة الآلية للحكومة، لا يضع في أجندته، نهائيا، الدفاع عن التطبيق السليم للدستور.
لكن كل هذا لا يقدم مبرراً للحكومة لخرق الدستور، كما أنه لا يعفيها من مسؤوليتها المباشرة عن احترام الشرعية، وحسن تنزيل القانون الأسمى للبلاد.
إن التوافق شيء محمود في السياسة، والتنازلات المحسوبة قد تكون جزءاً من التدبير المعقد لأوضاع الانتقال، والثقة أساسية لتطوير الشراكة بين الفاعلين، والاعتدال والتدرج من عناوين الممارسة السياسية الفُضلى، لكن كل هذا لا يبرر إطلاقاً استجابة حكومة الإرادة الشعبية والمنهجية الديمقراطية للضغط في ما يعتبر خرقاً واضحاً للدستور.
إن ما وقع يعني، في النهاية، فشلا ذريعاً للحكومة في مسألة تنزيل الدستور، ونهاية حزينة لمقولة «التأويل الديمقراطي».
بلغة السيد رئيس الحكومة، يحق القول في باب تطبيق الدستور: انتهى الكلام!
فهل ننتظر ما سيأتي في باب محاربة الفساد، وفي أبواب أخرى؟
لننتظر، فليس لنا -غير أوهامنا- ما نخسره.