في حديث صحيح عن ابن عباس قال الرسول الأعظم: (لأن أمشي مع أخ في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهرا) الحاجة هنا ليس حاجة تخص النبي بل تخص الآخر، أمر متعلق بمصلحته، فكيف يمكن أن تكون حاجة الآخر هي عينها مصلحتي؟ تلك هي معادلة التنمية في وجهها الإنساني. واليوم يحتاج الوطن لقراءة المصلحة وفق هذا المنظور، المصلحة العامة، تلك التي لم تشتغل عليها الدولة كما ينبغي وألبستها لبوسا مخزنيا مقرفا. العلاقة بممتلكات الدولة مفصولة عن تصور كونها ممتلكات الشعب، وفي الفهم العام هناك الشعب وهناك المخزن والدولة كائن هلامي، يتشكل غالبا في صورة متصلة بمجموعة أشخاص يحمون مصالحهم.
هناك عملية سرقة دائمة للدولة، سرقة الدولة من الدولة هي في جزء كبير منها تعتمد على سرقة الشعب من الشعب. ولن يتأتى ذلك دون نسف المرجعيات ومحو المعجم ومحو وتهويم الطريق إليه. لقد أشار ريجيس دوبري في تقديمه الحكيم لكتاب العبد والرعية للكاتب المغربي العميق محمد الناجي، الذي يخوض حربا ضد المعاني التي تؤخر صلتنا بالحياة: (إن السلطة لا تستقيم بالنسبة للذين يخضعون إليها أبدا بدون وجود عقيدة ما، غامضة لا يمكن اختزالها في القوة الفظة).
اصنع الغموض وأفرط في المحو تلك أولى مرتكزات جعل المصلحة العامة مقطوعة الصلة بجوهرها الفردي. الفرد مقابل الدولة، تلك الخطيئة الكبرى، الفرد في الدولة، تلك علامة الشفاء التي عجلت بانطلاقة المجتمع الغربي وصالحته مع مفهوم الدولة وصالحته مع تصور المصلحة العامة. لقد كانت خطيئة الإخوان في مصر هي اعتمادهم على المفاهيم المدنية والسياسية، باعتبارها ذرائع، مداخل لا مفر منها من باب الضرورات تبيح المحظورات، وأثبتت التجربة أن المفاهيم والمقولات لها منطقها الخاص ونجاعتها بحيث تفضح سريعا من يركب عليها في سياق منظور استعمالي يفتقد الأصالة، وتعوزه الإجرائية. تنتصر المفاهيم لنفسها، تنتصر لبنيتها وامتداداتها في نسيج الحياة، هذا الدرس السيميولوجي العظيم دفع كثيرون ثمنا باهضا وهم يحاربونه.
علاقة الموظفين بممتلكات الدولة، بحمايتها، بصيانتها، المفارقة بين موظف يسوم سيارة الدولة سوء العذاب، وفي المقابل يدلل سيارته الخاصة بمراوح هارون الرشيد، كل ذلك يعطينا صورة عن علاقتنا بالدولة، وعن مفهومنا للمصلحة العامة ويكشف أن الفرد محصن ضد الدولة. وأن المصلحة العامة بنية شعارية لا ظل لها على الأرض. المواطنون الذين يحتالون على الدولة كي لايؤدوا ضرائب شركاتهم أو منازلهم، المواطنون الذين يراوغون في حركات شقلبة و»أكروباتيك» يتقنها محاسبون مهرة للتملص من حقوق الدولة، مسلكيات تزيد من حجم المسافة بين الدولة والفرد، وتصنع بنية أخلاقية هجينة تصبح فيها مراوغة الدولة جزءا من النضال ضد المخزن وضد الباطل. إن موقفنا الأخير من مفاوضاتنا مع الاتحاد الأوربي المتصلة بالصيد في مياهنا تكشف أن الأمر لا يتعلق بسخاء مغربي، بل بمفهوم للمصلحة العامة لا يتحول فيه التبذير وتفويت الفرص لجريمة يعاقب عليها القانون.
السياسات العمومية التي لا تستضمر مفهوما أصيلا للمصلحة العامة تشبه تصورات العامة، وتمتح منها مدلولاتها وتتحول الدولة إلى بقرة تتناوشها السكاكين، دون أن يعلم الجميع أن تلك البقرة هي نفسها الشعب. وأن المصلحة العامة هي التجلي السوي للمصلحة الخاصة للأفراد. ويبقى جوهر هذا الفهم المغلوط، متصلا بمن يعمل لصالح وطنه ومن هو مرتهن لأطراف تملي عليه السياسات المطلوبة، وفق أجندة خارجية لاعلاقة لها بالمصالح الوطنية العليا. وهنا، نتذكر في قولنا المأثور أنه قيل: (عدا كلب وراء غزال، فقال الغزال: إنك لن تلحقني. قال الكلب: ولمَ؟ قال الغزال: لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك).