وقد وفرَتْ لي عشقا مُضاعفا لأسباب كثيرة، فيها الموضوعي والذاتي، مما جعلني أحلم بالكتابة عنها، عن الطبقة العاملة والحراك الاجتماعي وأصوات الصراخ الأبدي لِما هو اجتماعي وثقافي وسياسي. عن درب السلطان والحي المحمدي، وعن نهاراتها المختلفة جذريا من شبر لآخر، وعن ليلها الغرائبي الذي يبيض ألف فجر وفجر. وعن ناسها وأبطالها الأسطوريين لمّا كانت مكتفية باسم أنفا، أو في القرن الماضي مع المقاومين والثوار، رموز حلمنا القريب– البعيد، أو الحاضر التالف.
غير أن حدثا عابرا في يوم من أيام غشت الحارقة، سيجعلني أشعر أن الدار البيضاء، أو كازا– كما يحلو لنا أن نسميها– أصبحت مدينة بالمعنى الدولي، الشر جزء أساسي فيها.
أحد أصدقائي، واسمه مْويلِيدْ، لم يسبق له أن رأى الدار البيضاء، وكان دائما يرفض المجيء إليها لأنها ترعبه مما يسمعه عنها. ولكنه هذه المرة اضطر لمخالفة شرعه لأنه سيتزوج ولابد من قدومه شخصيا ليشتري بعض الملابس له ولزوجته، وقد أذهبَ الحب والفرح كل تلك التخوفات التي ترسّبت في نفسه البسيطة. وفعلا انتظرتُه في التاسعة صباحا بالقرب من كراج علال، فتوجهنا إلى سوق الشمال بدرب السلطان حيث اشترى كل ما يلزمه، ثم دعوته للغذاء في إحدى مطاعم السمك بعين الدياب على حافة الأطلسي، وهناك سمع مْويلِيدْ الناس، نساءً ورجالا وأطفالا، يَعبُرُون الحياة طولا وعرضا، طلوعا وهبوطا، يتكلمون في كل شيء. ففي جملة واحدة بلا فواصل أو برهة فارقة، تطلعُ من فم شاحب تتطاير منه الكلمات منذهلة فوق رشات رذاذ بلا لون أو طعم، كان يسمعُ جملة ترد فيها أسماء: مرسي والسيسي والأسد وأوباما ونصر الله والهمة وبنكيران ودانييل والفيمين وحقوق الإنسان والحسن الوزان ورْباعة الإفطار في رمضان والداودية والحمداوية تنوحان على الزمان…
مثل هذه الجمل، جاءت لتصقل كتلة ذهول مْويلِيدْ، فيَهُمُّ بسؤالي وهو يقول جملته التي أحب أن أسمعها منه دائما لكونها حكمة بأسرار لا تُدرك بيُسر: «نْجيك ْ منْ الآخر»، وكأن كلامه ليست له بداية، أو البدايات هي زائدة ولا فائدة منها.
حينما عُدنا وجدنا أن جزءا مما اشتراه قد سُرق من السيارة بعدما تركناه في الكرسي الخلفي والنافذة نصف مفتوحة، فتوجهنا من جديد لنشتري بضاعة أخرى، وهو يسألني بخجل:
نْجيكْ من الآخر، آولد بويا، ياك ما هاذ الزواج ما فيه خير؟!
ثم نضحكُ، وبعد ذلك أخذته في جولة سياحية إلى السقالة ودروب المدينة القديمة ومسجد الحسن الثاني. وأثناء عودتنا من شارع لالة ياقوت توقفنا أمام الضوء الأحمر في النقطة التي سنلجُ منها بداية شارع محمد السادس/ درب عمر، وأخبرته أنني سآخذه إلى الضيعة مباشرة بالقرب من مدينة سطات.. فأحبَّ، وهو منتش، أن يكلم صاحبنا صالح الوراقي بالهاتف ليخبره، غير أن دراجة نارية عليها إثنان مرت من جهته بعدما لمحوا الهاتف على أذنه اليمنى، فيخطف الذي في الخلف الهاتف من مْويلِيدْ ويلوذان بالفرار متجاوزين الضوء الأحمر.
وفي مكان ما، أمامنا، كان هناك شرطي بالقرب من دراجته يراقب المشهد مثل متفرج متهالك، وحينما أشرتُ له بيدي لِما وقع أمام عينيه، أشاح عني بوجهه، وواصلنا ومْويلِيدْ يريد أن يقول جملته السابقة. ولكنه يصمت.
قطعنا الشارع الطويل، متجاوزين كاراج علال والقريعة ودخلنا في دائرة عين الشق إلى أن اقتربنا من تقاطع شارع القدس فرأيتُ شرطيا على دراجته النارية باسم خالد. يوقفنا بطريقة جنونية كادت تتسببُ لنا في حادثة مع دراجة مواطن كادح. استفهمته عن الأمر وأنا منزعج، فقال لي ما معناه بأن البدو العروبيا قد ملأوا الدار البيضاء بالأوساخ، مشيرا إلى رقم السيارة (56) الذي يرمز إلى سطات.
– قلتُ له، دون أن يستفزني كلامه الطائش، هل هذا الكلام هو توجيه من مسؤوليك المباشرين لتقوله لكل من يسير في هذا الشارع؟
قال لي، وكأن بيني وبينه ثأر قديم، أتمنى لو يصدر قرار بمنعكم ونستريح منكم.
وفهمتُ أن مْويلِيدْ دائما على حق، لأن المقدمات السوقية والعنصرية من رجل أمن المفروض أن يحمي المواطنين، لا أن يتصيدهم بأقذر الأساليب. فقد بدا بعد هذه المقدمة أنه مستعجل واتهمني بمخالفة المرور في الضوء الأحمر، ولمّا سألته.. قال لي بعنجهية إن المخالفة قرب الجماعة الحضرية لعين الشق، وكانت تبعد عنا بحوالي كيلومترين. قلتُ له إنني كنتُ متوقفا ومررنا في الضوء الأخضر برفقة آخرين.. وفهم أني لا أسقط في فخ الإرشاء، فعمد مستعجلا إلى تسجيل مخالفة رسمية بغرامة سبعمائة درهم، ثم ركب دراجته النارية، سعيدا بصيده باحثا عن طريدة أخرى في مدينة يعتبر البعض فيها أن المواطنين رعاع رعية وطرائد وحشية.
واصلنا طريقا نحو سهول المزامزة، في صمت، أتفكر في مثل هذه القيم التي صارت جزءا رئيسا من سلوك مجتمع كازابلانكا، سلوك يجعل الأسود يطغى على الأبيض والرعب يتملك الأفئدة من اللص الذي سرق واختطف أو من رجل الأمن الذي لا أمان له.
شعيب حليفي