التبليغ عن الفساد والاختلاسات التي تهم المال العام واستغلال النفوذ والإضرار بالمصالح العامة، هو واجب ألزمت نصوصٌ قانونية كلَّ من توصّل بمعلومات في شأنه بالمبادرة إليه، لكن واقع الحال يكشف العديد من الأمثلة التي تحوّلَ فيها المبلّغون عن الفساد إلى متهمين يمثلون أمام المحاكم ويودعون خلف أبواب السجون. هذه خلاصة الإشكالية التي حاولت عدد من الهيئات الحقوقية، مناقشتها في ندوة احتضنها نادي المحامي بالرباط، مساء أول أمس. وكان المثال الذي تردد كثيرا على ألسنة المشاركين، هو المتعلق بقضية الـ»بريمات» التي تبادلها وزير المالية في حكومة عباس الفاسي، صلاح الدين مزوار، مع الخازن العام نور الدين بنسودة. «قضية مزوار هذه واضحة، فهو الذي أهدر المال العام واستفاد من تعويضات غير قانونية، فلماذا يحاكم اليوم المهندس اللويزي وصديقه؟» يتساءل طارق السباعي.
«المفروض أن تكون الآلية الأولى لمحاربة الفساد هي القانون، وثاني هذه الآليات تطبيق هذا القانون، أي القضاء، بالإضافة إلى آليات أخرى مثل السلطة التنفيذية الموكول إليها حماية القانون وتطبيقه، لكن سيصبح الأمر خطيرا إذا كانت هذه السلطة أو بعض أجهزتها، في القضاء أو باقي المرافق الأخرى، جزءا من هذا الفساد» يقول النقيب عبد الرحمان بنعمرو، الذي تولى تسيير هذه الندوة.
المحامي ورئيس هيئة حماية المال العام، طارق السباعي، قال إن الدستور الحالي للمغرب لا يتضمن مقتضيات تضمن حماية المال العام ومحاربة الفساد، وإن «الحكومة الحالية لا تلتزم بوعودها، بل إنها حكومة يحلو لها أن تعانق الفساد، فقد عانق بنكيران كريم غلاب المطوق بـ56 ملفا قدمناه للوكيل العام للملك والوزير الاتحادي السابق في العدل، عبد الواحد الراضي، وها نحن اليوم ننتظر أن يعانق صلاح الدين مزوار». واستشهد السباعي على رأيه هذا في الحكومة، بالقوانين التي قدّمتها للبرلمان حتى الآن، قائلا إن من بينها قانونا يحمي الصفقات العمومية الخاص بالجيش، من أي رقابة.
ممثل جمعية ترانسبرنسي في هذه الندوة، عبد الله حارسي، تناول الموضوع من زاوية اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وقال إن هذه الاتفاقية تضمّنت لائحة حصرية للجرائم المتعلقة بالمال العام، والتي ألزمت الدول المصادقة عليها بتضمينها في قوانينها الداخلية والمعاقبة عليها، بينما تركت قسما آخر من هذه الجرائم، في خانة الجرائم الاختيارية، والتي أوصت الاتفاقية بتضمينها في القوانين الداخلية. جرائم «اختيارية» من بينها استغلال النفوذ وإساءة استغلال الوظائف والإثراء غير المشروع والرشوة في القطاع الخاص… كما توصي هذه الاتفاقية التي يُعتبر المغرب من بين الموقعين عليها، بتخصيص جرائم المال العام بأمد تقادم أطول من باقي الجرائم، والتنصيص على مقتضيات تتيح تجميد الأموال والحجز عليها ومصادرتها.
المحامي عبد اللطيف رفوع، الذي تحدث باسم جمعية «عدالة»، قال إن التبليغ يثير إشكالات قانونية، «ومن خلال مقتضيات القانون الجنائي وعدد من القوانين، هناك جزاءات على الشخص الذي لم يبلغ على الجريمة، لكن ما يثير النقاش القانوني والحقوقي، هو المتعلق بتبليغات صادرة عن أمناء أسرار والذي تمكنهم صفتهم من الاطلاع على بعض الأسرار». رفوع قال إن القانون المغربي أقر حماية جنائية للسر المهني، «وظلت هذه الحماية قانونية، إلى أن صدر الدستور الأخير لتصبح هذه الحماية دستورية، مما يبرز اهتمام المشرع بهذه الأسرار». وبعدما لاحظ أن النصوص القانونية المغربية لم تعرّف السر المهني، مُكتفية بسرد بعض النماذج والوقائع، مما يجعله مرنا وقابلا للتأويل، قال رفوع إن القانون نفسه أباح إفشاء السر المهني في بعض الحالات، «وذلك لانتفاء المساس بالمصلحة المشمولة بالحماية، أو لحماية مصلحة أخرى أولى بالرعاية».
عبد السلام الشاوش، المحامي بهيئة الرباط وعضو المكتب الوطني لمرصد العدالة بالمغرب، قال بدوره إن القانون المغربي أعفى مثلا الأطباء من كتمان السر المهني في بعض الحالات، من قبيل الاطلاع على محاولة للقيام بالإجهاض، لكنه أبقى ذلك اختياريا. «القانون أعفى الأطباء عند التبليغ على الإجهاض، رغم أنه سر مهني، وبالتالي فإن التبليغ عن الإجهاض لا يعاقب عليه لأنه تبليغ عن فعل يعاقب عليه القانون الجنائي، أما عدم إلزامية التبليغ فلأنه قد يكون ضروريا لإنقاذ حياة الأم». وأضاف الشاوش أن حماية المبلغ لا تتأتى إلا حين يبلغ على جرائم منصوص عليها