يوم السبت 30 يوليوز الماضي، الذكرى الـ17 لجلوس الملك محمد السادس على العرش، توقيت استثنائي لبث الخطاب الملكي الأهم والأكثر اتساما بطابع سياسي، أي خطاب العرش.
الساعة العاشرة صباحا بدل الزوال، والفترات المسائية المعتادة، مرور سريع على محور الحصيلة والتوجهات العامة للبلاد، وانتقال مباشر إلى موضوع الساعة : غضب ملكي وتضايق واضح من بعض الخطابات السياسية المرتبطة بالأجندة الانتخابية، وتصريح شبه مباشر بالغضب من رئيس الجهاز التنفيذي والرجل الثاني في هرم الدولة، رئيس الحكومة، بسبب تصريحاته الأخيرة حول «التحكم» ووجود «دولتين» داخل الدولة المغربية، «أقول للجميع، أغلبية ومعارضة، كفى من الركوب على الوطن لتصفية حسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة»، قال محمد السادس مخاطبا نخبته السياسية.
وبعد أقل من ساعتين، حفل استقبال رسمي بالقصر الملكي بمدينة تطوان بمناسبة عيد العرش، أول المتقدّمين للسلام على الملك وتهنئته بذكرى جلوسه على عرش العلويين، هو رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، الملك يبادر إلى سؤال هذا الأخير عن تطوّر الحالة الصحية لوالدته، للا مفتاحة، التي ترقد في بيته منذ شهور في حالة صحية جد متدهورة.
الملك الذي كان قبل قليل، في شاشة التلفزيون غاضبا منتقدا، يطمئن على صحة والدة بنكيران، بعدما كان قبل بضعة أسابيع قد شملها برعايته الخاصة داخل أحد مستشفيات الرباط، وقدّم إليها قبل ذلك هدية خاصة بعد زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، حرص على تنبيه بنكيران على أنها ليست له بل لوالدته.
وفي اليوم الموالي، سيكون الملك على موعد مع ركوب إحدى السيارات المكشوفة، والتي تحلّ محلّ الخيول بين الفينة والأخرى، ليتقدّم أمام مئات من المنتخبين ورجال السلطة والمقاولين والأعيان القادمين من جميع أنحاء المغرب، ينحنون أمامه تباعا مرتدين زيّا تقليديا موحدا يكسوه البياض، ويرددون عبارات مغرقة في العتاقة والقدم، تعبيرا عن تجديد الولاء والبيعة.
وهو الملك نفسه الذي سيظهر في شاشات التلفزيون مساء، مستقبلا أفراد أسرة المواطنة المغربية لبنى الفقيري، والتي قتلت في عملية إرهابية استهدفت العاصمة البلجيكية بروكسيل شهر مارس الماضي.
هو الملك نفسه الذي تصيب غضباته كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، وينظّم مراسيم احتفالاته بطقوس وبروتوكول عتيقين، ينحني ليقبّل أطفال الراحل، ويقدّم إليهم قطع الشوكولاطة في جلسة ودّية.
بعد إتمامه 17 سنة من الحكم، يحتفل الملك محمد السادس، اليوم بعيد ميلاده الـ53، في يوم أطلق عليه والده الراحل، الملك الحسن الثاني، اسم عيد الشباب.
وأكبر مستجدّ بصم عليه محمد السادس، في سنوات حكمه، هو إصباغه لمسة من الإنسانية على صورة الحاكم، بعدما ظلّت الطقوس والأعراف إلى غاية أواخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تجعل الملك كائنا يكاد يكون «فوق البشر»، تحفّه الخوارق والهيبة.
مغاربة 2016 باتوا يعرفون ملكهم خارج جبّة البذلة الرسمية والجلباب الأبيض، يلتقونه بشكل شبه يومي في شوارع المملكة ومدن العالم التي يزورها، ويقتفون آثاره في مواقع التواصل الاجتماعي بدل انتظار أنشطته الرسمية في القنوات العمومية.
«الملك لم يتغير رغم مرور كل هذه السنوات، حيث هناك صورة الملك والهيبة والقصر والمخزن، ثم في مقابلها صورة الملك الإنسان»، يقول الخبير في التواصل وفنونه نور الدين عيوش، موضحا أن الملك يحرص، «وخاصة في الخارج أو أثناء جولاته الخاصة في المغرب، على الخروج بلباس شبابي متواضع، ليس دائما من ماركات عالية، بل غالبا ما تكون متوسطة، كي يكون متواضعا مع الناس وقريبا منهم، وهذه الصورة تأخذ بعدا يتماشى مع ما نراه في الشبكات الاجتماعية، فالشباب يرون فيه المستقبل ويحبون أن يروا الملك قريبا منهم، ويتركهم يقتربون منه ويعانقونه لالتقاط الصور».
وفي مقابل هذه الصورة ثانيا، يسجّل عيوش استمرار «صورة الملك داخل القصر وما له من هيئة تتسم بالهيبة والاحترام الكبيرين، وأنا أعتقد أنها يجب أن تطوّر شيئا ما وتصبح أكثر إنسانية وتواضعا مع الناس ولا تبقى مقتصرة على صورة الملك فقط». عيوش قال إنه يتمنى أن يدخل هذا البعد الإنساني في الجانب الرسمي، «حتى تلتقي الصورتان وما تبقاش وحدة ماشية هاكا وأخرى هاكا، ففي التواصل يجب عدم الخلط وعدم إعطاء رسائل متناقضة لأن هذا قد يشوش على المعنى المرجو، فهو لا يعطي أهمية كبيرة لطقوس البيعة وما يشبهها، لأنه يحرص على سحب يده ومن لا يقبلها ينحني له كي يقبل كتفه».
الحقوقي اليساري الذي عاصر كلا من الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، فؤاد عبد المومني، اعتبر أن الأمر لا علاقة له بالجانب الشخصي، بل بالمؤسسة الملكية. «كان هناك نوع من التموقع التواصلي وليس التموقع الاستراتيجي، وخطاب «ملك الفقراء» دام سنتين فقط، ثم جاء خطاب آخر يقول أنا أيضا ملك الأغنياء عبر عدد من الإشارات والخطوات. فعندما تنظر ما الذي تحقق عمليا في السياسات الاجتماعية، لا تجد سوى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وكانت وظيفة ذلك تواصلية فقط».
وشدّد المومني على أن لمسة «الأنسنة» التي يسجّلها الملاحظون لسلوك العاهل المغربي مع محمد السادس، «ليست انعكاسا للشخصية الملكية، بل مجرد تكيف طبيعي من المؤسسة مع عصرها. فالسلطان مولاي إسماعيل كان يقطع الرؤوس صباح مساء، ولا يمكن القول إن الحسن الثاني أنسن السلطة لكونه لم يفعل ذلك، لأنه ببساطة لم يعش ظروف مولاي إسماعيل. نفس الشيء الآن، عصر محمد السادس لم يعد يسمح بالحكم بنفس العنف والحدة التي حكم بها الحسن الثاني قبل عشريته الأخيرة. فمنذ سقوط جدار برلين، كان عندنا حسن ثان جديد لم يعد قادرا على مقايضة دوره لرعاية مصالح الغرب بقبول نظام عنيف بدون تحفظ. وما عشناه من أجواء حرية نسبية ابتداء من 1989 كان تأقلما وليس أثرا للشخص».
هواية المقارنة مع الحسن الثاني التي مورست كثيرا في العقد الأول من الألفية الحالية، لم تعد مبررة وقد اقترب محمد السادس من إكمال عقده الثاني في الحكم، فقد أصبح له تاريخه الخاص وبصماته الشخصية وأسلوبه المتميّز كملك قطع بعرشه مناطق ألغام وكمائن نوعية لم يكن لها مثيل في السابق. فسنتان بعد جلوسه على عرش الحسن الثاني، دخل العالم ومعه المنطقة العربية في حرب غير مسبوقة ضد «الإرهاب»، وعشر سنوات بعد ذلك هزّ زلزال مدمّر، بتعبير الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، المنطقة العربية وجعل عروش ثلاثة من أعتى حكامها على الأقل تتهاوى في لحظات.
«أنا لا أشبه والدي وهو كان يعرف أن لي وجهات نظر أخرى»، يقول الملك محمد السادس عن نفسه في أحد حواراته الصحافية. فيما التصق وصف «ملك الفقراء» به ليسبق اسمه، وبدا وريث الحسن الثاني منذ أيام ملكه الأولى بشوشا مبتسما ورقيقا قرب جموع «الرعايا»، يبادرهم بالسلام والتحية، وصوره الخاصة وهو يتجول في شوارع أمريكا وأوربا بلباس رياضي، أو وهو يمتطي دراجته النارية المائية في قمة النشوة والمتعة التي تولدها لديها الرياضات المائية، أصبحت تؤثث بيوت المغاربة ومكاتب الشركات.
أسلوب القرب رافق محمد السادس طيلة سنوات ملكه، معبّرا عن وجه الملك الإنسان، الذي يجد له في كل عام موعدا ليطفو بقوة على الواجهة ويذكّر بتلك الشحنة الكبيرة من الأمل والتعاطف التي نالها منذ توليه العرش. صورة جديدة اتخذها محمد السادس كحاكم منفتح مجدد ميال إلى العصرنة.
ولم يتردد في التعبير عن أذواقه الغنائية والموسيقية، وممارسة رياضاته المفضلة أمام العدسات، راكبا أمواج البحر صيفا، أو متزحلقا في سفوح الجبال شتاء. وتأكدت هذه الاختيارات «الحديثة» لمحمد السادس بهجره شبه التام للقصور البالية، واختياره الإقامة في إحدى فيلات واحد من أرقى أحياء العاصمة، مواليا خرجاته المفاجئة على متن سياراته الخاصة التي يتفنن في اختيار أشكالها وماركاتها، ومحترما في سيره قانون المرور. اشتغال على صورة الملك وعلاقته بمواطنيه، تعزّزت بخروج السيدة الأولى في البلاد إلى المجال العام وتأسيسها إحدى أكبر الجمعيات المتخصصة في محاربة داء السرطان، وهذا يساهم في ظهور جانب الملك الأب.
وإلى جانب استمرار الإعلام الرسمي في تخصيص «النشاط الملكي» بمكانة خاصة في نشراته، أصبحت المنصّة الرئيسية التي تبث أخبار الملك وتوثّق مشاهد التحامه بالـ»معجبين» والراغبين في تحيّة يدوية أو صورة سريعة، تتمثّل في صفحة فيسبوكية تأسست في العام 2008، يديرها الشهير سفيان البحري و»يهديها» إلى الملك.
الصفحة ومعها باقي الشبكة الاجتماعية، دخلت مؤخرا عهدا جديدا من الترويج لصورة الملك وتنقلاته، تتمثل في اعتماد مقاطع فيديو محكمة الإخراج وبجودة عالية، عوض الصور الثابتة التي كانت متداولة في السابق. فيما تلعب فترات سفر الملك إلى الخارج دورا إشعاعيا خاصا، حيث يكاد لا يوجد رئيس دولة في العالم، تثير أسفاره خارج بلاده من الاهتمام والمتابعة أكثر مما يكون عليه الحال خلال تواجده في عاصمة حكمه.
قبل نحو شهرين من الآن، وخلال زيارة خاصة إلى الديار الفرنسية، كشف الفنان الفرنسي ميشيل بورناريف، الذي ظهر في إحدى الصور إلى جانب الملك محمد السادس والكوميدي جمال الدبوز بأحد المقاهي الباريسية، عن كواليس هذا اللقاء عبر تدوينة في صفحته الرسمية بالفيسبوك. المؤلف الموسيقي والملحن الفرنسي الشهير، قال إنه كان سعيدا جدا حين التقى بمحض الصدفة الملك محمد السادس قبيل عودته إلى المغرب للاحتفال بشهر رمضان. «كنت سعيدا بلقاء جلالة الملك وشعرت بذلك الإنسان الذي ينصت لعالم يعيش تحولات وصعوبات لا تقتصر لا على بلاده ولا بلادنا»، يقول الفنان الفرنسي.
«كل هذه الصور التي تنشر عن الملك تلتقي في وقت معين ولا وجود لجدار يفصل بين الصور الرسمية وصور الفيسبوك»، يقول نور الدين عيوش، مضيفا أنه «لم يعد هناك فرق بين مجتمع الشباب والحداثيين، والمجتمع التقليدي، الكل اليوم يذهب في توجه الحداثة والتكنولوجيا الحديثة. رأيي الشخصي أنه يجب أن تلتقي صورتا الملك ولا تبقيان متفرقتين، وأنا متيقن أنه إنساني وله تواضع كبير، لهذا هو يجسد الشعب المغربي في كل شيء، لكن ما خاصناش نزيدو فيه، وننقصو شوية من الزرابي والأبهة الكبيرة، لأن حب الشعب موجود لكن يجب ألا يخلط بأمور أخرى». وذهب عيوش إلى أنه يتمنى أن يأتي يوم لا يبقى فيه أي أحد يقبّل يد الملك، «سواء كان امرأة أو رجلا كبيرا أو صغيرا، ولكن الاحترام يبقى هو نفسه، لأن القدسية لم يعد لها وجود ومعها يجب أن نزيل هذه الأمور ويصبح البروتوكول أقل مما هو عليه، لأننا دخلنا زمن الحداثة ونتواصل مع العالم».
وتوقّف عيوش عند حفل البيعة السنوي، ليقول إنه يجب أن تخرج «من إطار الجلالب والشمس، ويجب أن تصبح حداثية ورمزية، لأن الإنسان يرى ذلك ويشعر كما لو يعود إلى قرون مضت، نعم للبيعة، وهي موجودة بأشكال مختلفة في العالم وهي حب البلاد واحترام ملكها، لكن لا داعي لتلك الطريقة».
طقوس المخزن والبروتوكول العتيق «يشوّش» على صورة الملك الإنسان، حيث مازال هاجس إعطاء هيبة للملك وجعله مبجلا لدى العامة والخاصة يحيط بالأنشطة الرسمية. فـ«الهيبة هي الخوف والإعجاب، هذا الإحساس المختلط الذي يخالج الناس تجاه الملك، ينضاف إلى صفة الإجلال التي يضفيها الملك على نفسه، بنعته نفسه «جلالة الملك» قبل ذكر اسمه. وتنتج هذه الهيبة عن إحساس كامن في النفوس باستطاعة الحاكم استعمال العنف أمام العموم، وتعمل الطقوس المحيطة بشخص الملك، على تثبيت هذه الهيبة» يقول السوسيولوجي محمد الناجي في كتابه «العبد والمملوك».
وفيما يحتفظ الشق التقليدي في السلطة بورقة الهبات والأعطيات التي تبعث باسم الملك إلى الزوايا والطرق الصوفية، بصم محمد السادس خلال سنوات حكمه على جانب عصري، تمثّل في مبادرات اجتماعية كانت تتعهّدها وتخطط لها “تيريزا القصر الملكي، المستشارة الملكية الراحلة زليخة نصر”.
الخاصية الأساسية لمحمد السادس في طريقة ممارسته السلطة، هي أنه غائب عن السلطة، وكل السلط تمارس باسمه من طرف حاشية لا نعرف طبيعة علاقته بها، في حين أن لمسة الحسن الثاني كانت واضحة، حاشيته كانت لا تتحرك إلا بتوجيهه الدقيق والمعروف»، يقول فؤاد عبد المومني.
وأضاف أن ذلك يتجسد في حديث الصحافة عن «دوائر عليا ومصادر مقربة وجهات من القصر…».
وعن تفسيره لازدواجية الملك الحاكم والملك الإنسان، قال المناضل اليساري والحقوقي، إن أي نظام يتوجه إلى مجتمع متعدد المراجع، «وكل الفاعلين السياسيين يحاولون مخاطبة جميع شرائح ومكونات المجتمع.
محمد السادس حين جاء إلى الحكم، طرح عليه سؤال خاص وهو هل سيقود التغيير أم سيكون محافظا على التوازنات، وللأسف الاختيار كان واضحا وهو المحافظة على التقليد وليس قيادة التغيير الذي يتطلبه العصر».