حصريا.. إبراهيم نصر الله: 
على أحدهم أن يقــول لــنــا بوضــوح ما الــذي يريده الإنسان؟

21 مايو 2018 - 02:00

إبراهيم نصر الله: 
«على أحدهم أن يقــول لــنــا بوضــوح ما الــذي يريده الإنسان؟»في هذا الحوار، نتوقف برفقة الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله عند الرواية الفائزة وخصائصها الفنية والجمالية، وكذا القضايا التي تطرحها. كما نسعى إلى مناقشة تطورات القضية الفلسطينية والوضع العربي  الراهن من خلال حضورهما في إبداعاته الروائية.

 

لنستهل هذا الحوار بسؤال كلاسيكي أطرحه عادة على الفائزين بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). ها أنت فزت بهذه الجائزة، بعد ثلاثة ترشيحات سابقة («زمن الخيول البيضاء» سنة 2009، «قناديل ملك الجليل» سنة 2013، و»شرفات الهاوية» سنة 2014). ما انطباعاتك حول تتويج رواية «حرب الكلب الثانية» بـ»البوكر» هذا العام؟

هو فوز مفرح بالتأكيد، فهذه الجائزة هي التي تحظى، اليوم، بالاهتمام الأوسع عربيا وعالميا، لكن ما يسعدني، أيضا، أن رواياتي منتشرة بصورة رائعة، وتعاد طباعتها سنويا، وهناك ست منها مترجمة للإنجليزية وغيرها من اللغات. 
لكنها بالتأكيد ستعطي كتبي دفعة أخرى إلى الأمام.

كيف تنظر إلى الروايات الخمس التي نافست «حرب الكلب الثانية»، في القائمة القصيرة للجائزة؟

هي روايات جميلة فعلا، ومتنوعة، وقد قلت في كلمتي بعد إعلان النتيجة: بأنها روايات أحببتها قارئا وخشيتها منافسا. ولعل ما أسعدني تلك الروح الطيبة التي قابل فيها المرشحون خبر فوز “حرب الكلب الثانية” بالجائزة، والاحتفاء العربي بالفوز بعيدا عن المعارك التي تندلع، أو اندلعت، في معظم الأعوام.

ما رأيك فيما كتبه الكاتب أمجد ناصر في صحيفة «العربي الجديد»، تعليقا على اختيارات لجنة «البوكر» هذا العام؟

أظن أن أمجد أساء لنفسه كثيرا، وبصورة لا تليق به وبكتابته، فقد هاجم فلسطين، أمه بالرضاعة والوعي، وشكك في قدرتها على العطاء، وهاجم زملاءه الذين يفوقونه تجربة، وهاجم مجايليه في التجربة، أصحاب الرواية الواحدة أو الروايتين، وهاجم لجنة التحكيم واتهمها بالجمود، وتبين أنها كانت جريئة للغاية حين اختارت رواية تجريبية تتناول المستقبل، وتختلط فيها الواقعية بالمستقبلية، بالغرائبية بالفانتازيا والعبث.

في عام 2013، قررت لجنة التحكيم أن تمنح الجائزة للشباب، واستبعدت الأسماء المكرَّسة، وهو قرار كما علمتُ لم تكن أمانة الجائزة راضية عنه، استبعدت اللجنة يومها من الكتاب الذين وصلوا إلى اللائحة الطويلة: إلياس خوري، واسيني الأعرج، هدى بركات، ربيع جابر، وإبراهيم نصر الله، ورغم أن القرار لم يكن منطقيا، ويتنافى مع شروط الجائزة، إلا أن أحدا منا لم يُبدِ أي احتجاج. أفهم أن يحتج الإنسان، لكن أن يجرّح بلادًا وأصدقاء له، وهو الذي كان فرحا بوصول روايته إلى اللائحة الطويلة، وهنأ زملاءه حينها وأشاد بلجنة التحكيم نفسها، التي هجاها فيما بعد، وسبق له أن كان في لجنة من لجان تحكيم جائزة “البوكر”، فهذا أمر 
غاية في الغرابة. باختصار: لا يليق.

 تقوم رواية «حرب الكلب الثانية» على كشف أغوار سحيقة في النفس البشرية الحديثة، مثل نزوعها نحو الحرب والعنف، وكذا الميل الذي يستوطن رغبتها في التملك والجشع، لكنها تبرز، أيضا، جوهره الإنساني، بما يعكسه من حب وجمال وتعلق بالحياة، إلخ. ما الغاية التي ترمي إليها الرواية، وهي تعالج تحولات المجتمع من خلال هذه المفارقة المثيرة، بين نزعة الحب والجمال من جهة، ونزعة التوحش من جهة ثانية؟

نزعة السيطرة على كل شيء هي السائدة في الرواية، وليس ثمة شخصية إيجابية واحدة فيها. حتى الجمال الذي يتمّ التغني به، والوقوع في أسره إلى أبعد الحدود، يتمّ ذلك عبر الاندفاع المجنون لتملّكه. كل ذلك في مناخ تتأمل فيه الرواية تاريخ الحروب التي كانت واهية الأسباب لتحقيق مآرب كبيرة من ورائها. في التاريخ البشري هناك هذه المساحة الواسعة من العبث والسخرية السوداء، وعدم التعلّم من الدروس والوصايا، فلا الكتب السماوية غيّرت الإنسان، ولا الفنون والآداب والحكماء.. ولذا كان السؤال الذي طرحته الرواية بحُرقة: على أحدهم أن يقول لنا بوضوح ما الذي يريده الإنسان؟.

إلى أي حد يمكن القول إن الرواية تصف التحوّل الذي يطرأ على العديد من الأشخاص في العالم العربي- وفي العالم أيضا- ممن يبدؤون حياتهم معارضين أو مناضلين مثاليين، وينتهون أشخاصا فاسدين داخل دواليب السلطة؟

ما يؤرقني في هذه الرواية فساد المِلح، أي فساد الفرد العادي، وقد انشغلت الروايات كثيرا بفساد السلطة. السلطة تتغير، لكن الكارثة الكبرى تحدث حين يتأصّل الخراب في الإنسان، أو الفرد؛ هنا تبدو الأمور كلها أشد تعقيدا، وتبدو الحلول شائكة أكثر. من هذا المنطلق، كل البشر يبدؤون حياتهم مثاليين وطيبين، وليس المعارض والمناضل وحسب، مع أن الفئة الأخيرة، تختار الأمور بوعي، وتبيع نفسها بوعي. لكن ما عشناه في السنوات الأخيرة هي تلك الحالة التي يقفز فيها الإنسان من كونه جارا أو أخا أو صديقا ليغدو قاتلا، في ظل غياب أدنى درجات الوعي، أي التوحش المطلق.

تقوم الرواية كذلك، من حيث شكلها، على توظيف الأسلوب «الفانتازي»، وعلى تقنيات رواية الخيال العلمي، وعلى أدب العبث. هل يفهم من هذا التوظيف أن الرواية تسعى إلى طرح أسئلة المستقبل، والتنبؤ بمصير العالم انطلاقا من واقعه اليوم؟

الرواية تنطلق من محصلة الحاضر، وتذهب إلى المستقبل متكئة على سؤال: إلى أين يمكن أن يصل توحش الإنسان؟ ما هي الثمرة السوداء التي ستطرحها لحظتنا الراهنة؟ ولذا تستعين بكل هذه الأساليب، وهي أساليب وجِدت دائما في أعمالي الروائية، بصورة أو بأخرى، وليست غريبة عن كتابتي، لأنني دائما أميل إلى التجريب، وتقديم أشكال مختلفة

يلاحظ قارئ أعمالك المختلفة تجليات أبعاد أدبية وجمالية عالمية كبرى، منها الواقعية السحرية التي اشتهرت بها الرواية الأمريكية اللاتينية، والطابع الملحمي للأدب اليوناني القديم، والبعد النفسي والثقافي الذي يميز الأدب الشرقي عموما، وجماليات التصوير السينمائي الغربي الحديث. يبدو حضور هذه الأبعاد أمرا واعيا بلا شك، لكن الغاية منها وأسباب توظيفها يبقى ملتبسا إلى حدّ ما بالنسبة إلى المتلقي. هل يمكن أن توضح طبيعة هذا التوليف الأدبي وغاياته الجمالية؟

حين تتنوع مصادرك المعرفية، ينعكس الأمر مباشرة على أدبك. علاقتي بالفنون مثلا علاقة قوية، الرسم والتصوير، وكذلك، السينما، وقد أصدرت كتابين حولها، وأقمت خمسة معارض رسم وتصوير، وأنا شاعر أيضا، وتفتنني الحكايات الشعبية والأساطير، وأعشق المسرح.. كل هذه الأمور لا بدّ أن تنعكس أخيرا في هذا العمل أو ذاك بدرجة أو بأخرى. نحن نقرأ لنثقف النص الذي 
نكتبه، جماليا ومعرفيا.

وأستطيع القول ليست لديّ مشكلة مع القراء في هذا، فالأدب العالمي، بمختلف توجهاته وبمستوياته العالية، موجود في مكتباتنا بغزارة، وقارئنا يعرفه، وبالتالي لا مبرر للخوف من القارئ، لأن القاعدة التي أؤمن بها: لا تخف من القارئ، بل من محاولتك لإرضائه. والقارئ الذي لا يعرف، حتى الآن، كل ما يُنتج في العالم، ويتحفّظ اليوم على عمل ما، في غد القريب سيعرف ويغيّر رأيه.

يتبادر إلى الذهن، أيضا، أن مجمل مشروعك الأدبي، خاصة في سلسلة «الملهاة الفلسطينية»، ليس سوى إجابة عن صرخة غسان كنفاني في رائعته «رجال في الشمس»: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟» تنطبق هذه الملاحظة على أعمال معظم الروائيين الفلسطينيين المعاصرين. بمعنى آخر، يبحث مشروعك الأدبي في المصير الفلسطيني، وهو يلتقي هنا مع باقي المشاريع الأدبية الفلسطينية التي تروي في مجملها حكاية المأساة الفلسطينية. إلى أي حد يمكن القول إن مشروعك هذا، وباقي المشاريع الأدبية الفلسطينية اليوم، بدأ يتخلص من حكايات الفرار والنكبة والنكسة والهزيمة، وشرع يكتب حكايات الخلاص والانتصار على العدو؟

الكتابة الفلسطينية تنوعت وتطورت، وهناك ظواهر كبرى في الأدب العالمي ولدت بعد استشهاد غسان، ومن الطبيعي أن نكون جزءا منها، وأن نحاورها فنيا ونقترح مختلفًا عنها، وعابرًا لها. لكن ما أشار إليه السؤال لا ينطبق على الجميع، ففي داخل هذه الكتابة هناك تنوّع، وهناك اختلاف، وحساسيات أدبية كثيرة. بعضها استطاع أن يصل ويؤثر، وبعضها لم يزل يتأرجح في مناطق تقليدية. لكن ما يهمّني فيما أكتب هو أن يحضر الإنسان بصفاته كلها، فالإنسانية هي ما يوسع الوطنية، وكلما تضاءلت الإنسانية في العمل الأدبي، تتضاءل الوطنية وتخسر أيضا. وفي النهاية على كل منا أن يصل إلى معادلته الكتابية، وهذا ما حاولت أن أفعله في الشعر، وفي الرواية؛ في “الملهاة الفلسطينية” التي باتت تغطي أكثر من 250 عاما من تاريخ فلسطين الحديث، وبعض الفترات في داخل هذه الحقبة عبرت عنه بأكثر من عمل، من زوايا مختلفة

 تؤسس سلسلة «الملهاة الفلسطينية» للذاكرة الفلسطينية، وهي تلتقي في هذه الغاية، إلى حد ما، مع روايتي «باب الشمس» و»أولاد الغيتو- اسمي آدم» لإلياس خوري ورواية «مصائر» لربعي المدهون. إلى أي حد يمكن القول إن هذه الروايات تمثل، إلى جانب أعمال أخرى، سلالة إبداعية قادرة على هزم الاغتراب والنفي والطرد والخنوع والذل، وعلى تمجيد استمرار التمرد والانتفاضة، وعلى مقاومة النسيان وإفشال كل محاولات المحو والطمس، التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد حق الفلسطيني في الوجود؟

ما أحسه من خلال عدد الطبعات لروايات الملهاة مثلا، وما ألمسه مباشرة من القراء، هو أن قوة الكتابة استثنائية، وأثرها في الأجيال الشابة يفوق الوصف. لم أؤمن بقوة الكتابة مثلما أؤمن بها اليوم، لا أبالغ حين أتحدث عن مئات الآلاف من النسخ التي تباع، إضافة إلى النسخ المتوافرة مجانا على الإنترنت، والطبعات المُقرصنة بصورة واسعة. هذا يعطيك الأمل بأن الكتابة لا تذهب سدى، وهذا تحوّل كبير، نلمحه، أيضا، في تحركات الشباب، والفتيات، وتجمعاتهم في المناسبات الوطنية وغيرها، وكذلك حجم الوعي لديهم، فاليوم، يتحركون من أجل فلسطين لا بقوة الحنين وحده، بل بقوة الوعي، وهذا من أجمل وأروع ما تحقق، وفي ظني سينمو أكثر فأكثر مستقبلا. ولذا تجيء كثير من الروايات لتصبح ذاكرة جديدة تضاف إلى الذاكرة التي نقلها إلينا الآباء والأمهات والأجداد.

 في نظرك، هل استطاع الأدب الفلسطيني، بما راكمه من إبداعات اليوم، أن يفند مقولة الصهيوني «بن غوريون»: «سيموت كبارهم، وينسى صغارهم»، وأن يخلد الذاكرة الفلسطينية إلى الأبد؟

ليس الأدب وحده ما يفند مقولة بن غوريون، فلننظر إلى الوعي الذي ترسخ في انتفاضات فلسطين المتتالية التي يقودها الجيل الشاب، فلننظر إلى مسيرات العودة التي تجري هذه الأيام، ولننظر إلى أهم حركة نضالية ذات تأثير غير محدود، وأعني حركة المقاطعة للكيان الصهيوني، هذه ثمرة من ثمرات الأجيال الجديدة، والأدب جزء من جوهرها.

من جهة أخرى، إلى أي حد يمكن القول إن سلسلة «الشرفات»، برواياتها الست، تقدم رؤية أدبية إلى ما يحدث خارج فلسطين، خاصة في العالم العربي الذي صار يشكل اليوم نكسة كبرى؛ أي إلى بنى الدكتاتورية العربية ونزوعاتها السلطوية، ومفارقات بنياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة، وكذا الأكاذيب والأوهام وحالات الزيف الطاغية على عقل الإنسان العربي؟ ولماذا هذا التوازي الأدبي بين «الملهاة الفلسطينية» و»الشرفات»؟

لم توجد روايات مشروع “الشرفات” إلا لهذه الأسباب، هذا المشروع هو الوجه الآخر للملهاة الفلسطينية، هو مجمل هواجسي المتعلقة بما يحدث على أرضنا العربية؛ والحقيقة أن من يقرأ “الشرفات” سيدرك بسهولة، لماذا تتواصل هزائمنا في فلسطين وخارجها، وفي معاركنا الحضارية؟ في اعتقادي أن مشروعي الأدبي كان يمكن أن يكون ناقصا لو اقتصر على مشروع “الملهاة” الفلسطينية، وبالتأكيد، كان مشروع “الشرفات” سيكون ناقصا لو لم تكن هناك “الملهاة”، ثمة مناطق في المشروعين كان يجب أن أتأملها وأقول فيها شيئا. والمشروعان ليسا ضرورة أدبية بالنسبة إلي وحسب، 
بل ضرورة روحية.. إنسانية.

 تحضر في رواياتك الكوابيس والهذيانات والهلوسات من جهة، والرعب والكوارث والجاسوسية من جهة ثانية. لِمَ تعتمد كتابتك على هذه الآثار النفسية والتعبيرات السينمائية؟

أؤمن أن في الإنسان كل هذه الجوانب، وقد تكون ساعة واحدة من عمرنا، مزيجا من كل هذه الأمور مجتمعة. ما أراه أنك لا تستطيع أن تعبر عن كل شيء بطريقة واحدة، لأن كل حالة تفرض عليك شكلها ومداها، وكما قلت ذات مرة: حين تذهب لصيد السمك، لا تستخدم الوسيلة نفسها التي تستخدمها لصيد الوعول، لكنك في الحالتين بحاجة 
إلى حساسية غريزة الصياد.

ولذلك، كل هذه الأطياف، وسواها، موجودة، ربما، باستثناء الجاسوسية، كما أن الرعب لا يأتي من مفهومه التقليدي، بل من مفهومه المرتبط بفداحة الواقع وقسوته، كما حدث معي في رواية “حرب الكلب الثانية” و”شرفة الهذيان” وغيرهما.

عناوين أعمالك هي عناوين مبنية على المجاز والغرابة والسخرية عموما، (حرب الكلب الثانية، عَوْ، فضيحة الثعلب، الحب شرير، طيور الحذر، إلخ). ما الغاية من توظيف هذه العنونة؟ هل هي السخرية فعلا، أم صدم المتلقي وتشويقه ودفعه إلى القراءة؟

لا نستطيع أن نقفز على أهمية العنوان، فهو العتبة الأولى للنص، ولكنه في الوقت نفسه، يجب أن يكون منبثقا من جوهر الكتاب. لقد تأخّر إصدار رواية (عَوْ) مثلا عامين، لأنني كنت مصرّا على العنوان، وكان الناشر متحفظا عليه، إلى أن اقتنع بذلك، وتأخّر إصدار رواية “حارس المدينة الضائعة” عاما، لأنني لم أكن موفّقا في الوصول إلى عنوان مناسب، إلى أن وجدتُ عنوانها الذي صدرت تحمله. ولعل ما ينطبق على أسلوب الكاتب ينطبق على عناوينه، لأن هذه العناوين سمة أسلوبية أيضا.

تنكسر الحدود بين الأجناس في كتاباتك الشعرية والروائية. مثال ذلك «طيور الحذر» في الرواية، و»مرايا الملائكة» في الشعر. من جهة أولى، كيف يشتغل الشعر في روايتك؟ وكيف تحضر الرواية في قصيدتك؟ ومن جهة ثانية، في أي لحظة يلح عليك الشعر، ومتى يسعفك قوله؟ ومتى تجد ألا مفر من كتابة الرواية؟ وكيف يتبادل الشعر والرواية الأدوار أثناء الكتابة؟

ربما تبدو المسألة معقدة من الخارج، لكن التآلف في الداخل بسيط فعلا، فحين تكون خبرتك بالنوعين طويلة، يكون الشعر والرواية وأيضا بقية الفنون مزيجا معرفيا في داخلك، تستطيع الإفادة منه بالطريقة التي يحتاجها العمر، وبيسر. فالخبرة السردية، التي تحتاجها القصائد السيرية والملحمية، تتسلل بهدوء إليها خبرتك الروائية، وكذلك الشفافية والتقاط الجوهري بكثافته، والتي توجد في الشعر، تتسلل بهدوء إلى الرواية وتستقر فيها. المهم هنا، ذلك الوعي العميق لديك ككاتب، الوعي الذي يجعلك يقظا بحيث لا تبتلع اللغةُ الشخصياتِ والأحداثَ في الرواية، وتبتلع السردية رهافة 
الشعر وشفافيته في القصيدة.

هل هي مسألة معقدة؟ لا أعرف، لأنني لا أحس بأنها مؤرقة لي، فهي تأتي بيسر كما أشرت.

أما عن المحركات الأولى للشعر فهي جوّانية، مختلفة، عكس العالم الواسع للرواية، الذي يحتاج إلى بحث وتخطيط، مع أن الشعر يحتاج إلى بحث. في الفترات التي أكتب فيها الشعر لا أكتب الرواية، وحين أكتب الرواية لا أكتب الشعر.

هناك شعراء كبار الآن تحولوا إلى كتابة الرواية. هل ترى أن الرواية صارت اليوم ديوان العرب؟ أم لا بد للكاتب أن ينخرط في أجناس متعددة، مثلما كان الأمر قبل زمن التخصص؟

هذه القضية لا أحس أنها تثار في الثقافات الأخرى، بالنسبة إلي كتبت روايتي الأولى حين كنت أكتب ديواني الأول، وقبلهما كنت أكتب الرواية والقصيدة والقصة وأمارس التصوير في مرحلة الشباب، ما قبل النشر. وحين نشرت روايتي الأولى، كان ناشري يظن أنها ستسيء إلى صورتي كشاعر، فقد كان الزمن زمن الشعر. لا أستطيع أن أحشر أي إنسان في زاوية وأجبره على التعبير عن نفسه بوسيلة محددة، فالمشاعر مشاعره هو نفسه، والوسيلة وسيلته، لكن بعد صدور عمله أستطيع أن أقبل أو أتحفظ على العمل، فالمنجز النهائي هو المعيار. هناك شعراء كتبوا الروايات ولم ينجحوا، وهناك من نجحوا، وهناك من رحلوا وهم يتمنون لو أنهم كتبوا الرواية.

بدأت الرواية العربية تتخلى عن التجريب، وتعود إلى الشكل الكلاسيكي في الكتابة، مع تركيزها بشكل كبير على تسريد التاريخ وسير الشخصيات التاريخية البارزة (ابن عربي، التبريزي، جلال الدين الرومي، ابن رشد، إلخ). هل تمثل هذه العودة محاولة لرفع منسوب القراءة، أم إن الرواية التجريبية استنفدت فعلا مدتها الزمنية وقدرتها التعبيرية؟

لا أعرف إن كانت هذه ظاهرة تتعلق بالروايات العربية كلّها، أم بمسار ما، داخل الرواية العربية، بالنسبة إلي أؤمن بالتعدد داخل التجربة، وكسر المسار الشخصي بما أكتبه، حتى وإن فاجأ القارئ كما حدث في أعمال شعرية وروائية كثيرة كتبتها. ودعني أعترف أنني أحب أن أحدث ذلك الشرخ في تلقي الجمهور لعمل ما، لأنني أحب أن أمضي إلى مناطق لم أرتدْها ولم أستخدمها، في مخيلتي وعقلي، وهذه متعتي الخالصة ككاتب. ففي هذه المساحات الجديدة أكتشف نفسي أكثر، وأراهن على قارئ نوعي سيكتشف نفسه أكثر حين يقرأ مثل هذه الأعمال.

لا بدّ أن نختم هذا الحوار بالحديث عن علاقتك بالأدب والأدباء المغاربة. كيف تنظر إلى تجربة الأدب المغربي اليوم، سواء من خلال رواده (محمد برادة، أحمد المديني، محمد الأشعري، بنسالم حميش، إلخ)، أو أسمائه الجديدة التي اكتشفها القارئ العربي عبر لوائح «البوكر»، أمثال عبدالكريم جويطي وعبدالرحيم لحبيبي ويوسف فاضل وإسماعيل غزالي وطارق بكاري وياسين عدنان، وغيرهم؟

تعرف أن العالم العربي ليس بهذا الاتساع، رغم حجمه الكبير، والكثير من هؤلاء الأحباء أصدقاء شخصيين، ولذا من الطبيعي أن تكون أعمالهم جزءا من تكوينك الروحي والمعرفي، كما أن الإضافات النوعية من قبل الأسماء الكبيرة والأسماء الجديدة، شكلت دائما رافدا نوعيا، ليس هذا فقط، بل رافدا محفزا لكتابة مختلفة في كل العالم العربي.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي