بعض الأشخاص لديهم قدرة خارقة على تعليق كل مصيبة في رقاب الآخرين. فلا تعود تفهم من هي الرقاب المقصودة. رقبة النظام؟ رقبة المجتمع؟ أم ذنوب متقابلة على رقاب التخلف؟ قد تجد شرطيا مثلا يفسر التباطؤ في الاستجابة السريعة لنداءات الاستغاثة، وفي محاصرة الجريمة عموما بربوع هذا الوطن، بأن رجل الأمن لا يمكنه أن يتحمل لوحده تبعات غياب التربية والانفلات الأخلاقي والهيجان المتفشي في المجتمع. لا بد أن تساهم المدرسة والأسرة وقطاعات التشغيل والشباب والرياضة في إشاعة قيم التضامن والأخلاق وتوفير فرص الشغل وزيادة أعداد رجال الأمن وغيرها، حتى يكون بإمكان كل شرطي أن يقوم بدوره. وقد تجد مدرسا يقول إنه يستحيل أن يربي ويدرس ويتقن عمله، وهو أصلا في حالة أشبه إلى “التهجير القسري” من طرف الوزارة إلى مكان قصي، أو وهو يصادف حالات إدمان وانحراف ولا يمكنه أن يتحول إلى طبيب نفسي أو شرطي داخل القسم. على الجهات الأخرى أن تتحمل مسؤوليتها إلى جانبه. وهناك مثال الطبيب الذي يطالب بتمدين المناطق النائية قليلا قبل إلحاقه بمستشفيات داخلها حتى يقوم بمهامه في مناخ ملائم، والصحافي الذي يطالب بتوفير ضمانات الحرية حتى يكون قادرا على إنتاج شيء آخر غير الرداءة وتتبع عورات الناس، والقاضي الذي يطالب بتعزيز ضمانات حماية القاضي في حال النطق بأحكام تخالف أمزجة السلطة إذا أردتم إصدار أحكام متقدمة. وهذه مطالب مدمرة. لأنها تقود إلى حالة عجز عام الكل يعاني من تبعاتها. فهناك فرق بين رفع مطالب مع بذل الجهد، ورفعها لتبرير الإهمال. السلطة لن توفر الجو الملائم لأن هناك بنية فاسدة داخلها تقتات على الأجواء غير الملائمة في مختلف القطاعات، وكل مبادرة إصلاحية تهدد وجودها، أو ربما للأسباب الأخرى المفصلة في التقارير الرسمية وغير الرسمية عن أوضاع البلاد. والفرد غير مطالب بالإجابة عن هذا السؤال الكبير الخاص بالسلطة، بقدر ما هو مطالب بالإجابة عن سؤال أصغر يناسب مكانه: إنجاز عمله بأكبر قدر ممكن من الإخلاص في ظل هذه الظروف الصعبة. وليفعل ذلك وعينه على السؤال الأكبر، لا بأس.
مثلا، من حق الشرطي الذي يعرّض نفسه فعليّا للخطر حمايةً للأرواح أن يطالب بمواكبته من طرف باقي الفاعلين. لكن لا يحق للشرطي الذي يتماطل في الاستجابة لنداءات الناس أن يفتح فمه من الأصل في هذا الموضوع. لأن العقد الذي يربطه مع الأمن عقد عمل. ومفاد هذا العقد حماية أرواح وممتلكات الناس وليس تقديم دروس في الالتقائية وتكاثف الجهود والتربية. وإذا كان يرى أنه غير قادر على هذا العمل بظروفه الحالية في المغرب، فلا معنى لبقائه في سلك الأمن، لأنه يعني تعريض حياة الآخرين للخطر. والأمر ذاته ينطبق على الموظفين والمسؤولين ببقية القطاعات. لا بد من تلازم بذل الجهد مع المطالبة بتحسين شروط العمل. الاتكاء على فكرة المسؤولية المشتركة يؤدي إلى نتائج وخيمة. وإهمال الجهد وتفضيل التفلسف والشعارات هو الذي أحال نقابات عدة إلى تجمعات للسواعد المكسورة.
أقول هذا الكلام وأنا أعي صعوبة ما تمر به الطبقة الشغيلة من تحديات وغبن، وما تعرفه البلاد من مشاكل معقدة وجو غائم. إذا أراد الإنسان أن يعبر عن استيائه من ظروف العمل، فليسلك أي طريق مقرر إلا طريقا واحدا وهو التهاون. فيجعل من هذا التهاون المزمن وسيلة للانتقام من الظروف السيئة المحيطة بالعمل ومن المجتمع والدولة وكل شيء، خاصة في القطاعات الحساسة (الأمن والتعليم والصحة).
رجل الأمن الذي يخلص في عمله ويجتهد ويقاوم رغم الضغوط والتحديات والصعوبات، الأستاذ والمدير والطبيب والقاضي وعامل النظافة والبنّاء والمهندس والمفكر، هؤلاء الذين يخدمون الآخرين بإخلاص على ما يلقونه من ضغوط رهيبة، هؤلاء هم الأخفياء الأنقياء الذين يصنعون الاستقرار في المغرب، وينزل الماء من السماء ببركات أعمالهم..