أحوال الإمام مالك.. الأناقة

04 يونيو 2019 - 18:42

الدكتور أحمد كافي أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية الدار البيضاء

قليل من أهل العلم في جميع التخصصات من يهتم بأناقته ومظهره، إذ يلبس من اللباس ويعيش كما اتفق له، مهموما بما هو فيه من العلم ومسائله ومستغلقاته.. تشغله المسائل والعويصات عن التفكير في نفسه أكلا وشربا ولباسا.

أما الإمام مالك فلا يُماري أحدٌ في إمامته وتقدمه على أقرانه وشيوخه. ويكفيه فخرا ورفعة أن مذهبه لا يزال من المذاهب المتبوعة في العالم الإسلامي إلى اليوم.

ولقد كان الرجل مهتما بأناقته، والتي نشأ فيها باكرا، منذ أن قامت أمه بالاعتناء بمظهره قبل أن ترسله في طب العلم. قال مطرف، قال مالك: « قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال، فالبس ثياب العلم. فألبستني ثياباً مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها. ثم قالت: اذهب، فاكتب الآن » (ترتيب المدارك).

وهاهنا دور الأسرة في ذوق العالم واختياراته في عيشه وأكله ولباسه، وما يكون عليه في حياته، وما يلقى الناس به.

ومما نستأنس به في هذا المقام، من الاهتمام بالأناقة عند الشيخ مالك بن أنس، ما يلي:
أولا: « قال المؤرخون وأصحاب مالك كابن القاسم: قال ابن القاسم: مات مالك عن مائة عمامة، فضلا عن سواها » (سير أعلام النبلاء).

وكثرة ملبوس الرأس دال على وفرتها عنده، وأنها ليست عيبا في العالم. كما تدل على رغبته في عدم لبس ما يلبسه غيره أزمانا طويلة حتى تبلى وتتسخ. بل كان يلبسها المرة والمرة، ولا يعود إليها إلا بعد حين من الزمن الطويل. فيصر على أن يراه الناس إلا بالعمامة النظيفة الجديدة. ثانيا: وقال المترجمون له، ومنهم تلميذه محمد بن عيسى بن خلف: خلف مالك خمسمائة زوج من النعال، ولقد اشتهى يوما كساء قومسيا، فما مات إلا وعنده منها سبعة بعثت إليه (ترتيب المدارك).

هذا العدد الكثير من النعال، دال على عدم اكتفاء مالك بالواحدة أو بالاثنتين أو الخمسة… بل إنه يقصد أن تكون عنده وفيرة، للغرض السابق نفسه؛ وهو الخروج بأناقة مظهر، في كل يوم نعلا جديدا، يحفظ هيبته ظاهرا، كما هي محفوظة بعلمه باطنا.

ثالثا: واهتم مالك ببيته الذي يستقبل فيه زائريه من جميع الآفاق. فإن الرجل يستوطن المدينة النبوية، وهي مأرز الناس من كل الآفاق لزيارتها. ومن هؤلاء الزائرين الفضلاء من أهل العلم والنسك والفقه… ومن أهل السياسة والحكم.. وغيرهم كثير. فكان يعتني ببيته. قال ابن أبي أويس: جميع ما في منزل مالك يوم مات رحمه لله تعالى، من منصات؛ وبرادع؛ وبسط؛ ومخادد محشوة بريش؛ وغير ذلك، ينيف على خمسمائة دينار (ترتيب المدارك).

وهذه ثروة عريضة في ذلكم الوقت، أنفقت في بيت الاستقبال. وهي ثقافة أخذها مالك عن شيخه. إذ كان يقول: حدثني ربيعة أن نسبَ الْمَرْء دَاره. أي أنه كما يكتسب الإنسان الشرف من نسبه، يكتسبه أيضا من داره ذات المظهر الجميل.

رابعا: اعتناؤه بالزينة: وكان له راتب لهذه الأشياء مستقر، يأخذ من الزينة حظ نفسه. قال الزبيري: كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد والخراسانية والمصرية المرتفعة البيض ويتطيب بطيب جيد (ترتيب المدارك). وقال أشهب: كان مالك يستعمل الطيب الجيد؛ المسك وغيره (ترتيب المدارك). وأنت ترى أنه لا يختار إلا جيد العطور والثياب، ويتحاشى رخيصها، يستمتع بنعم لله عليه. وهو في هذا يخالف عمليا توجها من بعض المتنسكين، القاضي بلبس المرقعات والمخرقات والباليات.
ولذلك كان وهو يفعل ذلك، كأنه معني بقول القائل:
لا بأس بالغالي إذا قيل حسن *** ليس لما قرت به العين ثمن.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي