شخص من عضويته في حزب بسبب تصرف طائش، متهور، أو جرمي. لا نعرف الوقت الذي بدأت فيه هذه البدعة في الانتشار بين الأحزاب المغربية، لكن لم يكن أحد قبل عشرين عاما يسمع بحدوث تأديب عضو في حزب ما قام بأعمال سيئة.
لقد تربت القواعد على شيء واحد؛ مساطر التأديب لا تسلط عليك إلا إذا كنت مخالفا لبصيرة وتوجه الزعيم. ما يحدث في حزب الأصالة والمعاصرة في هذه الفترة مثال على ذلك، حيث يكاد أمينه العام، عبد الحكيم بنشماش، يطرد جميع معارضيه من الحزب.
لا نعرف على وجه التحديد من خطا الخطوة الأولى في هذا المسلسل المتحول بشكل تدريجي، وغير المطاق، إلى عبء ثقيل. مساطر التأديب التي كانت الأحزاب الوطنية تحرسها في أنظمتها الأساسية وقوانينها الداخلية سلاحا فتاكا ضد المخالفين والمتمردين، كانت، وقتا طويلا عند الأحزاب الأخرى، مجرد خربشات تكميلية لصفحات قوانينها.
كانت الأحزاب تصفي مشاكلها دون ضجيج كبير، ثم حدث أن شكل أحدهم لجنة تأديب، ثم لجنة تحكيم، ثم لجنة أخلاقيات. كانت بمثابة حارس للقيم الجماعية كما الفردية، ونصبت المقصلة وسط ساحات مقرات الأحزاب، وباتت فرائص الأعضاء ترتعد أكثر فأكثر، أو خُيّل لنا أنها كذلك.
لا شك أن تأثير الشبكات الاجتماعية قد تزايد في السنين الأخيرة، وبات ضغطها أكثر مما يحتمل. يمكن لعضو في حزب مغمور أن يُعوّق تقدمه السياسي بسبب تدوينة، كما حدث لنائبة في البرلمان تدعى خديجة زياني من حزب الاتحاد الدستوري، كانت جريرتها الوحيدة هي الاقتباس من خطاب للملك الراحل الحسن الثاني حول الريف. صورة ساخرة صادرة عن كيان رعاه الملك الراحل بكلتا يديه.
وفي الواقع، فإن الأحزاب أصبحت تستجيب أكثر للغط الموجود في الشبكات الاجتماعية أكثر من أي شيء آخر، ومن المؤكد أن ما تؤمن به بخصوص أعضائها ليس هو ما يدفعها دفعا إلى تحرير تلك البيانات المزيفة. وما العمل إذا كانت الجموع تطالب برأس عضو ربما أفدح ما فعله هو ارتكاب مخالفة سير.
هذه الطهرانية الأخلاقية السائدة بكل عجرفة، في الشبكات الاجتماعية، قادت إلى أسوأ كوابيس زعماء الأحزاب؛ الانحناءة الظاهرية لرغبات الناس. ولا تضير التضحية بعضو هنا أو هناك إن كانت النتيجة هي دفع آلاف الحسابات على الشبكات الاجتماعية إلى الصمت، ثم التهليل لاحقا لقرار التضحية. هذه هي المشاهد نفسها التي كانت القبائل البدائية تنخرط فيها خلال طقوس التضحية بالقرابين.
باسم لجان الأخلاق ضُحي بالكثير، وتبين لاحقا أنهم أبرياء. أصبحت هذه المحاكم العرفية داخل الأحزاب بمثابة مشنقة بحبل شائك. حتى وإن نجوت من الموت في اللحظة الأخيرة، فإن آثار الحبل ستبقى شاهدة طول عمرك على ما فعلته.
لذلك، كانت للأحزاب خدعة؛ عندما تكون مُجبرا على التضحية بأحد، فإن أفضل من يمكن أن يكون هدفا هم أولئك الأعضاء قليلو الأهمية عندك. هذه حكمة تقليدية تنبثق من رؤية للعالم فحواها أن لأكباش الفداء غاية عظيمة.
لنبدأ من الأقرب زمنا. عزيز بنعزوز، القيادي في حزب الأصالة والمعاصرة، شخص بسيط راكم ثروة في زمن قصير. لم يكن رجل أعمال، ولا يملك ميراثا هائلا. موظف صغير نجح في أن يجعل من سيرته السياسية ماكينة لتحصيل النقود. لم يكن بمقدورنا قبل اليوم أن نلوح بشكوكنا حوله علنا، لكن رئيس حزبه، هذه المرة، هو من فعل ذلك.
قضية متوسطة القيمة، بقيت في رف مغبر زمنا طويلا، ولم يستخدمها بنشماش حتى فطن إلى أن صديقه ذَا زمن قد غدر به في لعبة العروش بالحزب. ملف يتضمن بضع مئات من الملايين لم تجد طريقها من فريق البام بمجلس المستشارين إلى خزينة الحزب، أحيل على لجنة التحكيم والأخلاقيات.
لم يصدر الحكم بعد، لكن الضرر قد حصل. على بنعزوز من الآن فصاعدا أن يتوارى عن الأنظار كليا إن رغب في النجاة.
لزعماء الأحزاب هذه القدرة السحرية على فعل ما يتوجب فعله باسم الأخلاق لدفع الناس إلى الاختفاء، حتى وإن كنّا على يقين من أن هذه الأخلاق ليست سوى وسيلة تستعمل بابتذال ودون اقتناع تام.
سيحدث أن يصبح التأديب المطلوب مجرد سراب. فعلها إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في قضية خالد عليوة. هذا الرجل عاش البحبوحة بأموال القرض السياحي والعقاري عندما كان رئيسا له. لم يكتشف صحافي ذلك، بل المجلس الأعلى للحسابات من فعل.
وتحت وطأة الدهشة والذهول من قيام يساري مزعوم بكل تلك الأفعال الأرستقراطية بغير أمواله، كان السجن أقرب الأماكن إليه، وذلك ما حدث. جعل لشكر من سجن عليوة قضية لليسار كما لحزبه، تحول إلى محام له في المحكمة كما في الإعلام. لم يفتح ملف لعليوة في الحزب، ولَم يجر طرده منه.
ونجح لشكر، بدور ما في مكان ما، في أن يجعله حرا. لقد بقي ملاحقا، لكن تبين أن من يطارد عليوة كمن يلاحق السراب وإن كان ماء معلوما. يستطيع قادة الاتحاد الاشتراكي، بكل تكبر، أن يعلنوا انتصارهم. على ماذا؟ على كل شيء آخر سوى أنفسهم طبعا.
وكأن لشكر مدرب على هذه المهارة، فقد كان كفيله، عزيز أخنوش، منفذا جيدا. في التجمع الوطني للأحرار لا يطردون عضوا ما إذا جرى ضبطه في وضعية جرمية. ذات مرة، أقالوا برلمانيا لأنه دخل مجلسه في حالة سكر. ومنذ ذلك الحين توقفوا عن ذلك.
محمد بوسعيد، وزير المالية المقال من لدن الملك بسبب «شيء غامض»، وهي العبارة المفضلة عندي لقول إن هناك شيئا جللا قد حدث لتفسير غضب الملك عليه، لم يجر دفنه كما تستوجب الأعراف. لقد أخذ عطلة، ثم عاد وتسلم منصبه منسقا جهويا للحزب. في التجمع الوطني للأحرار لا يطردون أحدا إلا إذا خالف الزعيم.
بشكل معين، تصبح القضايا الأخلاقية، كما الجرمية، للكبار داخل الأحزاب، موضع جدل، حيث لا مجال للتسرع، والسماح للغوغاء في الشبكات الاجتماعية بأن تفرض سطوتها.
وحتى حزب العدالة والتنمية نمّى موهبة في فعل هذا -وإن لم يكن هو البادئ بذلك- وقد غذى القفزات البهلوانية نحو طرد رؤساء جماعات مغمورين، أو كتاب فروع منزوين، دون أن يفعل شيئا إزاء قضايا كباره. تترك ملفات الكبار تدور ثم تدور حتى تنزلق إلى اليد المناسبة لترميها خارجا، كما حدث للحبيب الشوباني.
ليس مستغربا، كما ليس سببا للاستهجان، أن يدير الجميع رأسه نحو البيجيدي؛ فهو من بدأ هذه الأشياء، وعليه اللعنة إن لم يستمر في فعلها، فالأحزاب الأخرى لن تفعلها سواء سار على هذا الدرب أم لا، فالأهم حاليا هو أن يعرفوا أمد صمود البيجيدي. لسوء الحظ، فإن كرة الأخلاق، كما كان يستعملها ضد خصومه، مازالت تدور، وهذه المرة نحو المنحدر، وفي كل دورة يلتصق بها المزيد من الأوساخ.