محمد السادس: Vous Foncezلنبش مقبرة ضحايا 1981 ..والشعب يجب أن يعرف الحقيقة

23 يونيو 2019 - 20:01

شكلت ‏أحداث 20-22 ‏يونيو 1981 ‏لحظة ‏تحول ‏في وعيي بالشأن العام في بلادنا، أججت وشحذت فضولي ‏الفكري ‏وما ترتب عن ذلك من تساؤلات ‏حول ماضي ومستقبل ‏أوضاع وطننا‏.

وأصدر مؤخرا كل من المندوب الوزاري الحالي في حقوق الإنسان، شوقي بنيوب، رفقة عباس بودرقة، كتاب « هكذا كان »، حكي كيف بدأت عملية استخراج الجثامين من حفرة بدت في شكل مستطيل،

وحكى كل من بودرقة وبنيوب، كيف طرح رئيس الهيئة، الراحل إدريس بنزكري إشكالية التعامل مع المقبرة التي تم اكتشافها في مقر الوقاية المدنية بالبيضاء. « استمع الرئيس إدريس بنزكري إلى آراء الحاضرين، حول المصير الذي انتهى إليه الموضوع في العلاقة مع وزارة الداخلية. وبعد ذلك قرر استئذان جلالة الملك محمد السادس في شأن استخراج الرّفات من مقبرة الوقاية المدنية بالدار البيضاء. ويشاء طلب الاستئذان هذا أن يصادف وجود جلالة الملك في زيارة رسمية لليابان ».

الكتاب يوضح كيف أن التقاليد تستوجب الانتظار في مثل هذه الحالات، « لكن المفاجأة كانت كبيرة، من حيث طبيعة التجاوب مع الطلب، وجاء الجواب الملكي في أقل من 24 ساعة، يحمل الكلمة الشهيرة Vous Foncez، ما يفيد الإقدام ومواصلة العمل ». عبارة قال كاتبا المذكرات إنها ظلت تتردد في الآذان طيلة أسابيع، « ومازالت أصداؤها قوية كلما ذُكر موضوع استخراج الرفات من مقبرة الدار البيضاء.

وأشفعت بهذه الكلمة العبارة الأشهر لجلالة الملك، بأن « الشعب المغربي يجب أن يعرف الحقيقة »، وهي العبارة التي ستُقال مرة أخرى عندما استقبل جلالته المرحوم إدريس بنزكري بمناسبة الإذن بنشر التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة.

وزن الحسن الثاني

« كلكم تعلمون شعبي العزيز، أن لكل رئيس دولة وزنين: وزنه الخاص بشخصيته وتجربته، الخاص بمعرفته لتحليل المشاكل والتغلب على الصعاب، وله وزن آخر وهو الاعتبار والاحترام اللذان يتمتع بهما الشعب الذي يمثله ويخدمه »، قال الملك الراحل في خطاب 24 يونيو عقب تلك الأحداث، في مقدمة لعتاب اعتاد القيام به كلما انفلتت الأوضاع من يده، حيث ربط بين التحرّك الشعبي المعروف بمجزرة « شهداء كوميرة »، والمهمة الدبلوماسية التي كان الملك مُقبل عليها في العاصمة الكينية نيروبي حول الصحراء، معتبرا أن ذلك التحرك الشعبي أضرّ بصورة المغرب.

بين عبارات العِتاب والهجوم الشديد على من اعتبرهم الملك الراحل متسببين في أعمال العنف والشغب، عاد ليقرّ بالمسؤولية ويعتبر بأن للدولة نصيب مما تلام عليه، فقد « وقع الشغب في الأحياء التي ليست في الحقيقة أحياء، وقع الشغب في ذلك السكن الذي لا يليق بالكرامة الإنسانية أن يعيش فيه أحد، ذلك السكن الذي تركناه يبنى، نحن الذين أغمضوا أعينهم يوم أقيمت البراكة الأولى والثانية والثالثة، نحن الذين لم يمسكوا بالشيخ أو مقدم الحومة أو الخليفة أو العامل الذين لم ينهوا عن المنكر وتركوه يستشري، نحن المسؤولون وحين أقول نحن، أتحدث عن خمس عشرة سنة مضت، نحن المسؤولون… »، قال الحسن الثاني في خطاب عيد الشباب الموالي، يوم 8 يوليوز 1981. ثم عاد ليتساءل: « فمن أين أتى هؤلاء الناس؟ » ويجيب: « أتوا من البادية. ستقولون لماذا أتوا من البادية؟ أجيبكم بأن البادية لم تعطهم الوسائل ليبقوا مستقرين بها، هذه الوسائل هي الشغل، وأماكن لدراسة أبنائهم، والدافع الذي يجعلهم يفضلون حياتهم بالبادية ويدافعون عن استمرارية تلك النوعية من الحياة في البادية ».

نقابة فتية تتحدى الدولة

قصة اليوم الدامي بدأت صباح يوم السبت 20 يونيو 1981، حيث خيّم على مدينة الدار البيضاء في سكون شبيه بذاك الذي يسبق العاصفة، فالحاضرة المزدحمة مليئة بالحركة، بدأت يومها كما لو كانت مدينة شبح: المعامل خالية من العمال، المتاجر مغلقة، ووسائل النقل العمومي توقفت عن التجول في شوارع المدينة، والسبب: إضراب عام دعت إليه نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.

الدعوة إلى هذا الإضراب صدرت عن نقابة « فتية » بهدف إجبار الدولة على إلغاء الزيادات في أسعار المواد الأساسية التي أعلن عنها رسميا يوم 28 ماي من السنة نفسها. وفي مقابل دولة حريصة على كبريائها و »هيبتها »، كانت المواجهة مقبلة على عملية كسر للعظام، ظلت حصيلتها الحقيقية والدقيقة في علم الغيب إلى أن جاءت هيئة الإنصاف والمصالحة لتسلط بعض الأضواء عليها، فلجنة تقصي الحقائق التي طالبت المعارضة الاتحادية بإنشائها تم رفضها، بدعوى أن الدستور لا يخول للبرلمان ذلك، رغم أن لجنة تقصي الحقائق في قضية امتحانات الباكالوريا لم تكن ببعيدة. ووسائل المراقبة الدولية والرصد الإعلامي تم تحييدها ومنعها من تغطية الأحداث، بدءا من صحافة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الصحافة الدولية. وحتى أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة لم تشمل التحقيق في مثل هذه الأحداث وجرد لوائح الضحايا والبحث في حقيقة المقابر الجماعية، باستثناء النزر القليل الذي كشفته تحت غطاء دعم صريح من الملك محمد السادس.

« هل الإضراب معناه أنه هو المظهر الوحيد الذي يمكن أن نعبر به عن تذمرنا؟ وهل الإضراب معناه أنه يلزم أن يمس جميع قطاعات الدولة دفعة واحدة؟ هل مفهوم الإضراب أن الدولة في جهة والمضربين في جهة؟ لا أظن ذلك، أظن شخصيا أن القانون الأساسي للإضراب هو أولا الحوار، فإذا لم تحصل نتيجة عن الحوار يقع الإنذار… »، يقول الملك الراحل الحسن الثاني، في أحد خطبه اللاحقة، مؤكدا عدم اقتناعه بوجود أسباب « كافية » لإعلان الإضراب العام.

زيادات صدمت الفقراء

في أصل القصة، كان المشهد النقابي المغربي عرف ظهور ملامح مركزية نقابية جديدة يقودها الاتحاديون، تتشكل من أهم النقابات الوطنية المستقلة عن الاتحاد المغربي للشغل. وتوجت هذه التطورات بتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كمركزية نقابية تجمع أهم القطاعات الاقتصادية، وعقد مؤتمرها التأسيسي يومي 25 و26 نونبر 1978 بقاعة للأفراح بشارع الجيش الملكي بالدار البيضاء.

مباشرة بعد تأسيس المركزية النقابية الجديدة، انطلق الحوار شهر فبراير 1979، لكن هذا الحوار رافقته حملة اعتقالات في صفوف القادة النقابيين. لترفع الكنفدرالية شهر مارس من السنة نفسها، مذكرة إلى الوزير الأول ضمنتها مطالبها الأساسية، هي احترام الحريات النقابية، وتطبيق السلم المتحرك للأجور والأسعار، والزيادة في الأجور، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى ألف درهم.

بدل الاستجابة لتك المذكرة المطلبية، تم في ماي من السنة نفسها، الرفع من الأجور بنسبة ضعيفة لم تشمل الجميع، كما تم الرفع من الحد الأدنى دون أن يشمل القطاع الخاص والمؤسسات شبه العمومية. وهذا الإجراء الأحادي الجانب بدوره كان مسبوقا بحملة اعتقالات وطرد المئات ممن شاركوا في إضراب في قطاعي التعليم والصحة يومي 10 و11 أبريل 1979. وخلال سنتي 1979 و1980، بدأ مسلسل ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وارتفع مؤشر كلفة المعيشة بـ38 في المائة. ما دفع بالكونفدرالية إلى مطالبة الحكومة بالرفع من الأجور وفتح الحوار المجمد. لترفع مذكرة جديدة إلى الوزير الأول في 25 أبريل 1981، مطالبة إياه بفتح الحوار واحترام الحريات النقابية.

حكومة المعطي بوعبيد لم تكتف هذه المرة بعدم الاستجابة أو التزام الصمت، بل بادرت إلى إصدار بيان بثته وكالة الأنباء الرسمية في 28 ماي 1981، والذي جاء حاملا لنبأ الزيادة في سعر المواد الأساسية، بمعدلات قياسية إذا أضيفت إلى الزيادات التي سجلت في السنتين السابقتين، حيث تقررت مضاعفة سعر كل من السكر والزيت، وزيادة 200 في المائة في سعر الحليب، وأكثر من ذلك في سعر الزبدة، ونسبة 185 في المائة في سعر الدقيق…

معارضة قوية

أول رد فعل على هذا الاستفزاز الحكومي جاء من حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث سارعت اللجنة المركزية للحزب إلى إصدار بيان يوم 31 ماي، اعتبر أن الوضع بالمغرب بلغ مستوى غير مسبوق من الأزمة، وطالب الحكومة بالتراجع عن هذه الزيادات، محملا إياها مسؤولية ما قد يترتب عنها. الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تتأخر بدورها في التحرك، وبثت نداء إلى الشغيلة المغربية يوم 2 يونيو، داعية إياها إلى التعبئة الشاملة لحمل الحكومة على التراجع عن تلك الزيادات. بينما كان الفريق الاتحادي في البرلمان يحاول الضغط على الحكومة ومساءلتها عما أقدمت عليه، فكان الرد تحت قبة البرلمان، أن حكومة صاحب الجلالة تعتزم إعلان زيادات أخرى، لأن صناديق الدولة في أزمة.

بناء على تلك التطورات، انعقد اجتماع المجلس الوطني للكونفدرالية يوم 7 يونيو، وأصدر بيانا بمطالب واضحة: إلغاء الزيادات الأخيرة في أجل سبعة أيام، وفتح حوار فوري حول الملف النقابي، مع التعبير عن الاستعداد « لاتخاذ الإجراءات اللازمة في حال تشبث الحكومة بقراراتها » وتحملها كامل المسؤولية عما يمكن أن يترتب عن ذلك. وفي اليوم الموالي، عقد الكاتب العام للنقابة، نوبير الأموي، ندوة صحافية تناول فيها الأوضاع الاجتماعية المتأزمة. مهلة الأسبوع التي حددتها الكونفدرالية انصرمت دون تلقي أي رد حكومي، فدعت المركزية التابعة لحزب الوردة باقي المركزيات إلى التحرك المشترك، لكنها لم تجد أي تجاوب. لتعلن في 15 من يونيو، اعتزامها خوض إضراب عام لمدة أربع وعشرين ساعة، في الـ20 من ذلك الشهر.

أربعة أيام قبل حلول الموعد، أعلن الاتحاد الجهوي للدار البيضاء، التابع للاتحاد المغربي للشغل، إضرابا بمدينة الدار البيضاء يوم 18 يونيو، مبادرة تلقفتها الكونفدرالية بإعلانها إضرابا مماثلا يشل مدينة الدار البيضاء، كخطوة تعبوية للإضراب العام المرتقب يوم السبت 20 يونيو. فيما كانت المعركة حامية داخل البرلمان، حيث وضع الفريق الاتحادي مشروع قانون يقضي بإلغاء الزيادات الأخيرة في الأسعار، ويتخذ إجراءات استعجالية لدرء خطر الانفجار الاجتماعي، دون أن تلقى المبادرة صدى من نواب الأحزاب الأخرى.

حصار شامل

أياما قبل موعد الإضراب، ومنذ انعقاد المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، تمت محاصرة المقر المركزي للنقابة، وأصبحت مقراتها الجهوية تحت المراقبة الصارمة. عدد يوم التاسع من يونيو لجريدة « المحرر »، الناطقة باسم حزب الاتحاد الاشتراكي، نشر صورا تظهر الحصار الأمني حول مقر المركزية، وكيف أصبح وصول أعضاء الكونفدرالية إلى مقرها المركزي شبه محظور. فيما بدأت حملة الاعتقالات في العاشر من يونيو في مناطق مختلفة (سيدي بنور، تازة، قلعة السراغنة، الدار البيضاء…) وبعض المركزيات الأخرى خضعت بدورها لضغط الدولة وشنت حملة مضادة للحث على العمل، وهو ما أعلنه رسميا وبكل افتخار وزير الداخلية حينها، إدريس البصري، داخل البرلمان.

يوم الجمعة 19 يونيو، كانت أمواج الإذاعة الوطنية تبث بيانا للوزير الأول المعطي بوعبيد، كُتب بلغة التهديد والوعيد، وحاملا لائحة عقوبات تنتظر المشاركين في الإضراب من طرد وتوقيف… بينما رجال إدريس البصري من أعوان كالمقدمين والشيوخ ومعهم رجال السلطة، يتجولون في الدروب والأزقة، وأمر واحد يوجه للجميع: ضرورة الالتحاق بالعمل يوم غد، ما يعني أن المتاجر يجب أن تكون مفتوحة ومحطات البنزين في نشاطها العادي تحت طائلة السجن ستة أشهر وسحب رخصة توزيع المحرقات…

حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كان بدوره في مرمى الأجهزة الرسمية، فهذه الأخيرة لم تستسغ إعلان الحزب دعمه الكامل لتحرك النقابة، وانخراطه في حملة مهاجمة وشجب زيادات 28 ماي. مفعول الغضب الرسمي بدا جليا في تعامل السلطات مع صحافة الحزب، والتي باتت تحت رقابة صارمة ثلاثة أيام قبل الإضراب. فجريدة المحرر التي كانت تبدأ السحب عادة في السادسة مساء، لم تعد تتلقى الإذن بالطبع إلا بعد الثانية صباحا، ما يعني توزيعا فاشلا عمليا.

خيبة القمع

كانت خيبة أجهزة الدولة كبيرة عندما أشرقت شمس يوم السبت 20 يونيو 1981 على مغرب الأشباح. المعامل مغلقة، سائقو وجباة الحافلات يرفضون إخراج عرباتهم من مرائبها، التجار متنازلون عن مداخيل هذا اليوم، والقطاعان العمومي وشبه العمومي في عطلة غير رسمية… في المقابل كانت إجراءات إفشال الإضراب بحجم كبرياء دولة لا يقبل الانكسار، فتم البدء من حركة السير، المؤشر الرئيس على نبض الحياة الحضرية. أوامر شديدة اللهجة لسائقي الحافلات باستئناف العمل، هؤلاء يرفضون الامتثال، فتبدأ المنهجية القمعية في تكسير الهدوء الحذر.

تم اعتقال أعضاء المكتب النقابي للوكالة المستقلة للنقل الحضري بالبيضاء، وأُجبر السائقون على أخذ أماكنهم خلف المقود تحت تهديد شرطي مسلح على متن كل حافلة. أعوان السلطة يطرقون أبواب التجار ويخرجونهم من بيوتهم نحو محلاتهم، فلا يترددون في فتح أبوابها بأنفسهم. وعربات بمظهر عسكري تُقّل آلاف الرجال المسلحين يجوبون الشوارع ويستعرضون القوة تحت إشراف مروحيتين عسكريتين تحلقان في سماء البيضاء.
عند الساعة 11 صباحا تقريبا، كانت نتيجة توتر الأوضاع، هجوم بعض الشبان على إحدى الحافلات، ما أدى إلى توقف الحركة من جديد، ليغادر رجال الأمن المسلحين حافلاتهم استعدادا للمواجهة. المحلات التجارية التي فتحت أبوابها تحت الضغط سرعان ما أقفلت، وفي محاولة منها لكبح احتجاجات المواطنين، كانت قوات الأمن تعتقل كل من يوجد خارج بيته.

في كبريات المدن مثل فاس والرباط ومكناس وطنجة… كانت مسيرات المتظاهرين تتزايد، لكن أكبرها هي تلك التي كانت تنظم في الدار البيضاء، خاصة في أحياء شعبية مثل الحي المحمدي وسباتة وسيدي البرنوصي… مسيرات تعلن الغضب من محاصرة المدينة وتركز شعاراتها على زيادات 28 ماي. غضب لم يحمل السلطات على تخفيف وطأة الحصار، خاصة مع وصول اللواء الخفيف للتدخل، التابع للدرك الملكي، وأخذ سيارات حاملة لأسلحة رشاشة في التجول داخل المدينة، فيما العربات المصفحة شرعت في توجيه فوهات مدافعها نحو المتظاهرين.

ترهيب ثم قتل

بين الساعة 11 صباحا والثانية زوالا، كانت تلك القوات تكتفي بترهيب السكان واستعراض قوة الدولة. لكن ذلك لم يمنع من تزايد أعداد الخارجين إلى الشوارع والمنضمين إلى المتظاهرين. وفي الساعة الثانية بعد الزوال، بدأت مستشفيات البيضاء تتلقى تعليمات باستنفار الأطباء والممرضين والدخول في حالة تأهب. ليبدأ إطلاق النار في الساعة الثالثة بعد الزوال، حيث كانت الأوامر تقضي بإطلاق مكثف للنيران على جموع المحتجين، وعلى الرصاص أن يستقر بين الأعين وعلى الجانب الأيسر من الصدر، أي إيقاع القتلى لإخافة الجموع.

عصر ذلك اليوم الدامي، كانت أولى وحدات القوات المسلحة تصل إلى المدينة، وتنطلق في عمليات تمشيط واسعة داخلها. مع إطلاق ممنهج للنيران تجاه المواطنين. كان الجرحى ينزفون في الشارع دون أن يتلقوا الإسعاف، فيما الاعتقالات لا تميز بين طفل وشاب وامرأة، ليسدل الليل ظلامه وسط حظر للتجول ومواصلة لعمليات التمشيط والاعتقال. في نهاية اليوم، كان قرابة 10000 شخص محتجزين بفضاء معرض الدار البيضاء، بعدما امتلأت مراكز الاعتقال ودوائر الشرطة.

صباح يوم الأحد الموالي، كانت وحدات عسكرية مصفحة مرابطة أمام المؤسسات العمومية بالمدينة، وأخرى تجوب الشوارع، كما لو كان المغرب في حرب. احتجاجات السكان لم تهدأ ولم تتراجع معها عمليات القمع والاعتقال، خاصة في الأحياء الشعبية. بعض المعتقلين أُخذوا إلى الثكنة العسكرية عين حرودة، حوالي 10 كيلومترات شمال المدينة، وظروف الاحتجاز تذكر بالمعتقلات الكبرى الشهيرة في « سنوات الرصاص ».

جهود القوات العمومية سوف تتركز بعد إخماد المظاهرات على إخفاء معالم المجزرة. فالجثث كانت تُجمع من الشوارع وتنتزع من الأسر لكي لا تعاود رؤيتها، المصابون برصاص الجيش والدرك والشرطة « محتجزون » في غرف خاصة بالمستشفيات حتى تختفي آثار ذلك، والعمليات الجراحية تتم بحضور رجال الأمن. وحدات من الجيش تتمركز أمام مستودع الأموات المركزي ومستودع ابن رشد. ومهمة المقدمين والشيوخ أصبحت تتجسد في ترهيب أسر الضحايا وحثها على عدم القول بمقتل أبنائها، وإن كان ذلك لا يمنع إقامة الجنازات وأداء صلواتها في المساجد.

إخفاء الجريمة

قبيل منتصف ليلة السبت إلى الأحد، 20-21 يونيو 1981، صدر بيان لوزارة الداخلية يتهم كلا من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بالتحريض على العنف، وبالعجز عن تأطير الإضراب. اتهام تضيفه المعارضة الاتحادية السابقة إلى لائحة تناقضات أطروحة الدولة، وتستدل على ذلك بكون الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تصدر أي نداء للتظاهر، ومسؤولوها الوطنيون والمحليون مكثوا في مقراتها إلى أن تم اعتقالهم هناك، كما لم يتم اعتقال أو توقيف أي من مناضلي الحزب أو النقابة في المظاهرات. أما النقابة، فقد تم شل حركتها باعتقال كاتبها العام نوبير الأموي على الساعة الثالثة بعد الزوال من يوم الإضراب، رفقة أعضاء مكتبها التنفيذي، وتمت محاصرة واحتلال مقراتها من طرف قوات الأمن، ما جعلها عاجزة عن أداء مهمتها النقابية.

أما الحزب، فقد منعت صحافته، عمليا، صباح يوم الأحد الذي تلا اليوم الدامي، وذلك باحتلال مقر جريدة المحرر واعتقال رئيس تحريرها، وقبل كل ذلك، فإن أعلى سلطة في البلاد متمثلة في الملك، اعترفت بتقصيرها ومسؤوليتها في عدم تأطير بعض الأحياء الشعبية، وعدم إمدادها بالأجهزة الأمنية والقضائية قبل هذه الأحداث…

إقرار الملك الحسن الثاني بجزء من المسؤولية، لم يخل من عتاب: « الأمر ليس بخطير كتظاهر، لكن الأعمال بالعكس كانت خطيرة، لأنها مست ممتلكات المواطنين وأملاك الدولة… إن هؤلاء الأطفال كانوا في عطلة مدرسية، فحُرضوا على إلقاء الحجارة، والأطفال لا يرحمون، كما يقول المثل. لقد بدؤوا برمي الحجارة، ثم تلاهم أفراد معروفون أُلقي عليهم القبض… »، يقول الملك الراحل في ندوة صحافية عقدها بعد الأحداث الدامية.

إضراب ناجح وقمع فاشل

وحسب الرواية الرسمية الحكومية، فإن الإضراب كان فاشلا أولا، والسلطات لم تتدخل لمنع تنظيمه واحترامه، ثانيا. ثم إنه لم يسقط في تلك الأحداث سوى 66 مشاغبا من « شهداء كوميرا »، بتعبير وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، بدل أكثر من 600 التي تتحدث عنها جل المصادر. كما أن الجيش لم يتدخل إذ لم تكن هناك حاجة إلى ذلك، طالما أن الدولة كانت حريصة على ممارسة الحريات النقابية. أما من دعوا إلى شل اقتصاد البلاد، فإنهم محرضون ومتآمرون، ومتواطئون مع أياد خارجية تعرف أن المملكة كانت مقبلة على مؤتمر نيروبي الحاسم في ملف الصحراء…. تلك رواية من يملكون سلطة القول.

أما رفاق عبدالرحيم بوعبيد، فظلوا يحتكمون في أمر نجاح الإضراب من فشله إلى « الذاكرة الشعبية ». فهم يعتبرون أن هذه الأخيرة باتت تختزن عن يوم 20 يونيو 1981، ذكرى يوم تاريخي بصم الحياة السياسية والاجتماعية للمغرب الحديث. ويعتبرون أنه شكل لحظة فارقة في تاريخ الإضرابات بالمغرب. دليل هذا الرأي هو التوقف الشامل لكل الأنشطة اليومية المرتبطة بالإنتاج. من المقاولات الصناعية والمؤسسات العمومية، إلى المتاجر الصغيرة والمتوسطة. هذه المشاركة الواسعة كانت مؤطرة تنظيميا، من خلال انخراط النقابة الوطنية للتجار الصغار والمتوسطين، والنقابة الوطنية للتعليم العالي، والاتحاد الوطني للمهندسين…

دليل آخر على نجاح الإضراب برأي معلنيه، تلك الحملة الواسعة من الاعتقالات والمضايقات التي شملت قيادات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وطنيا ومحليا، بعدما كان هؤلاء يجتمعون في مقرات النقابة لمتابعة أطوار اليوم الاحتجاجي. إضافة إلى استعدادات المغاربة ليوم الإضراب، من خلال الاصطفاف في طوابير طويلة مساء يوم الجمعة، أي عشية الإضراب، أمام محلات البِقالة والمخابز…

انعقد بعد هذه الأحداث الدامية سيل من المحاكمات لقيادات سياسية ونقابية ومنع للصحافة، وغيرها من التبعات التي أسهبت أدبيات المعارضة السابقة في تعدادها، والتقارير الدولية في إحصائها. لكن أي وثيقة رسمية أو متفق على اقترابها من حقيقة ما وقع، لم تحصر أعداد الضحايا ولا حجم الخسائر ولا صحة المسؤوليات في إعطاء الأوامر بإطلاق النار على الأطفال والمدنيين.

حقائق الصدف

وحدها الصدف وأخطاء في التقدير ظلت تكشف بين الفينة والأخرى عن الحفر التي دفنت فيها الجثث، دون أن تأخذ مساطر التحقيق طريقها نحو التأكد من هويات الضحايا وترتيب المسؤوليات. وإذا كان شطط السلطة التنفيذية وتجاوزها في استعمال القوة متوقعا، فإن سلطة أخرى أبدت كامل عجزها وتبعيتها، هي القضاء. هذا الأخير وفّر الغطاء الكافي بانخراطه في تنفيذ رغبات الدولة وخدمة استراتيجيتها دون أدنى مقاومة، أو إعمال لمبادئ المحاكمة العادلة، أو فتح للتحقيقات الضرورية لتحديد المسؤوليات.

بعد أكثر من ثلاثة عقود من انتفاضة يونيو 1981، أصبح المغرب أغنى، لكن مواطنيه أصبحوا أفقر. خلاصة تواترت التقارير والدراسات لتأكيدها، منذ خرج الملك محمد السادس صيف العام 2014 ليتساءل « أين هي هذه الثروة؟ ». الكم الأكبر من هذه الدراسات والتقارير، أصدره الجهاز الإحصائي الرسمي والأكثر وثوقية، أي المندوبية السامية للتخطيط، والتي تكشف كيف أن ارتفاع حصة الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي، تخفي وراءها خللا في التوزيع الحقيقي لثمار هذا النمو، حيث تؤول غالبيته إلى الأغنياء ومالكي رأس المال، مقابل انسداد قنوات توزيع فائض القيمة المضافة، عن طريق تقلّص وتيرة التشغيل بالأساس.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي