قضى الفقيه بينبين مدة تناهز 31 عاما يشتغل مؤنسا للملك الحسن الثاني.. ابنه ماحي بينبين، اختار توثيق هذه التجربة المثيرة في رواية «مؤنس الملك» التي تمت ترجمتها لعدة لغات.. في هذه الحلقات نجري حوارا مع الروائي والفنان ماحي بينبين، وقصته مع والده، كما ننشر أبرز فصول الرواية.
لم يكن بنبراهيم (شاعر الحمراء) من الأصدقاء الذين قد أختارهم في العادة، فهو أولا يكبرني بعشر سنوات، كما أن شغفه المعروف بالخمر والغلمان لا يتناسب مع تربيتي المتزمتة. فميلي الجنسي تقليدي جدا، وفكرة معاقرة الخمر حتى أعجز عن التحكم بأفعالي تنفرني إلى أبعد الحدود، لذلك فإن رفقة شخص كهذا كانت أمرا مخالفا بطبيعتي، خصوصا أن علاقة من هذا النوع قد يساء تفسيرها. وبما أن النميمة رياضة وطنية في بلادنا، فإن مرافقة بنبراهيم قد تفتح الباب أمام تأويلات شتى. المقابل فإن هذا الرجل وأنا أزين كلامي بدقة كان وبدون أي منازع أكبر شاعر عرفته بلادنا. كيف أروي بداية هذه القصة بدون أن أتحدث عن أبي محمد الذي كان يمارس مهنة الحلاقة؟ كان أبي أيضا موسيقى أو حكواتيا، حلو المعشر وصاحب معدن وموهبة قلما نجد لهما نظيرا.. فكان من الطبيعي أن ينظم لحاشية الكلاوي باشا، زعيم قبيلة كان يسيطر على جنوب البلاد في زمن الحماية الفرنسية. بالعودة إلى شاعرنا بن إبراهيم-مدمن الكحول؛ والمثلي جنسيا؛ والمفلس – فإن الانتماء إلى حاشية الباشا كان سبيله الوحيد للبقاء من الناحية المادية أولا؛ ولكن أيضا للنجاة؛ إذ كان بحاجة إلى حماية من المخاطر الكبيرة التي تعرض إليها حماقته الكثيرة، فمع حلول الليل يخرج ليتسكع في حانات الجنود، ويعاقر الخمر حتى يترنح، ثم يذهب باحثا عن فتيان يرضون بمشاطرته لياليه. كان الرجل صيادا ليليا يتنزه في بلاد الإسلام وهو في شبه غيبوبة ناتجة من معاقرة الكحول؛ تجتذبه الأزقة الفقيرة والقذرة في المدينة وفي المقابل؛ يمضي وقته كله في نظم القصائد التي تمجد حاميه، أي سعادة الباشا. جرى اللقاء الأول بيننا في مطبخ القصر حيث اعتدت أن أتناول طعامي؛ مستفيدا من سخاء الزعيم الذي يمتد إلى أبناء خدامه. كنت أصادف أحيانا هذا الرجل الذي يتمتع ببلاغة ووقار؛ وعظمة في الروح تركت عميق أثرها في حينذاك وأنا لا أزال طالبا شابا.
اهتم بنبراهيم بقدراتي غير الطبيعيّة على أن ألقي قصائد طويلة دفعة واحدة وبدون أي تردّد .فباتت محادثاتنا تطول في شوارع المدينة، وحدائقها. ولاحقاً في الحانات التي كان يرتادها مع هبوط الليل. كنت أحبّ التنزّه برفقته، وأستسلم إلى الأبيات التي يبدع بنظمها، فأتذوّق عصارتها كشراب إلهيّ. كذلك كنت أتبعه في هروبه إلى عالم الليل بمقدار ما سمحت لي به أهوائي، وسجّلتُ في ذاكرتي كلّ صوت سمعته. كان بنبراهيم يحتسي الخمر فيما أنا أشرب الشاي بالنعناع بدون سكّر. كثير من الخمر، وكثير من الشاي، ينكّههما فيض من الكلام الجميل والفصيح. وكلّما أسرف في الشرب، استرسل في إلقاء القصائد العائدة إلى قرون غابرة، وعوالم بعيدة، وجاد برباعيّات كنت وحدي قادرّا وسط الجلبة على الاستمتاع بما فيها من قوّة، ورقّة، وجرأة، وشهقات مكبوتة، وسخرية، وتناقضات موفّقة. كنت أعيش لحظات من السحر يقدّمها إليّ على طبق من فضّة، لأنّه وبرغم السُّكر الشديد كان يدرك أنّني أفهم معناها، وأتذّوق البلاغة الممزوجة بموسيقى من تأليف الآلهة، والصور الشعريّة التي تنتفض للخروج من الأطر الجامدة للكلمات التي تحتويها، فتتطاير البلاغة والصور الجميلة في سماء فكري المتّصل بفكره. كان بنبراهيم يقلع آنذاك عن قصائد الثناء لحاميه وما يرافقها من مبالغ وفيرة، ويعود إلى حقيقته، فيغنّي للحبّ الممنوع بكلّ أوجهه، ويمجّد الخمر والحريّة. نشأ بين هذا الرجل وبيني نوع من العلاقة التجاريّة. كيف أقول ذلك بدون أن أبدو في نظركم نصّاباً؟ كنت أحفظ تماماً كلّ القصائد التي ينشدها وهو بحال السكر. وحين يستعيد وعيه في اليوم التالي في مطبخ الباشا، أبيعه إيّاها بسعر باهظ. وكان بنبراهيم يدفع ثمنها بدون أن يرّف له جفنّ. ذات مرّة أعجبتني ساعة برّاقة حول معصمه أهداها إليه الباش، فقرّرت أن أثير فضوله، وعلّقت بطرف الصنّارة طعمّا، هو كناية عن قصيدة نظمها بنفسه لكنّه نسيها. بعكسي .كنت أحفظ في ذاكرتي بذهب خالص يسيل له لعابه.
– ماذا أنشدت أمس؟، سألني وعيناه الصغيرتان تلتمعان قلقاً،
– قصيدة رائعة! معجزة أدبيّة …
– أُتلُها عليّ !
– ذاكرتي تخونني في الصباح الباكر.
– كم تريد؟
– نظرت إليه، وقيّمت درجة فضوله قبل أن أحدّد سعرّا.
– خمسة دراهم.
-لا أملك هذا المبلغ، قال معترضا، أنفقت كل ما معي على الشراب أمس، وأنت كنت شاهدا.
-أعجبتني ساعة يدك قلت مبتسما.-
– إنها هدية من الباشا، رد بامتعاض.
-هذا شأنك أنت.
ورحت أستدرجه بتلاوة أجزاء من المعجزة
وفي الحال نزع بنبراهيم الساعة من يده ودفع لي الثمن الذي أردته.
يمكنني أن أقول اليوم برغم شعوري بشيء من الخجل، إن هذا الرجل هو صانع ثروتي بكل ما في الكلمة من معنى. برؤيته يعيش تعلمت أن أعيش وأضحك وأغني. وأخذت عنه دهاءه. وتعلمت كيف أباغت من يناقضونني، فأهاجمهم وأحول حججهم الواهية إلى موضوع هزء. حتى إنني أحيانا كنت أثير صدمة الآخرين بدون اكتراث، راسما على فمي ابتسامة زهو كابتسامته. كما حدث يوم كان متكئا إلى بار في إحدى الحانات حاملا بإحدى يديه كأس نبيذ وبالأخرى سبحة، فتوجه إليه رجل كث اللحية، عند باب الحانة وخاطبه بلوم واضح:
قل لي يا معلم، كيف يستطيع رجل بمكانتك ومشهور بثقافته الإسلامية، أن يشرب الخمر؟ هذه السبحة التي تحملها ستشهد عليك يوم القيامة أنك شربت الخمر.
بدون أن يبعد الشاعر عينيه عن الرجل المزعج، رفع سبحته وغمس لآلئها ببطء في الكأس. لبثنا ننظر إليه مشدوهين.
السبحة ستشهد أنني شربت خمرا وأنا أشهد أنها سبحت في الخمر
قد تجدون كثيرين هنا ممن يملكون روايات طريفة يروونها حول هذا الرجل الذي عاش في مجتمع مبني على المحرمات ملعونا ومقدرا في آن واحد.
هكذا كان بنبراهيم، هذا الرجل الاستثنائي الذي وبغير معرفة منه، ترك في مسار حياتي أثرا عميقا.