جمال أغماني – وزير سابق في التشغيل والتكوين المهني- خبير في قضايا الشغل والحوار الاجتماعي لدى عدد من المنظمات الدولية
ما هي أهم الإصلاحات ذات العلاقة بميدان الشغل والحماية الاجتماعية والحوار الاجتماعي التي تحققت بالمملكة منذ تولى الملك محمد السادس العرش؟
بإيجاز، يمكن القول إن المغرب، تمكن خلال العشرين سنة الماضية، من إقرار رزنامة مهمة من التشريعات المهيكلة في هذا المجال، في سياق مطبوع بملاحظتين أساسيتين؛
الملاحظة الأولى، أنها إصلاحات اتخذت طابع سن مجموعة من القوانين ومراجعة أخرى، وإصلاح الصناديق الاجتماعية، خاصة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وأنها جاءت في المجمل لسد الخصاص الاجتماعي الكبير الذي خلفته سنوات التقويم الهيكلي، من جهة، وبداية نهج سياسة الانفتاح الاقتصادي من جهة أخرى، إلا أن محفزها الأساس تمثل في التطلعات التي عبر عنها العهد الجديد للملك محمد السادس، وعرفت انطلاقتها المؤسسة مع حكومة التناوب التوافقي برئاسة السي عبد الرحمان يوسفي.
تتمثل الملاحظة الثانية في أنه جرى إقرارها بشكل توافقي من خلال آلية الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات العمالية ومنظمة أرباب العمل، باستثناء قانون واحد يتعلق بمراجعة معاشات التقاعد المدنية، والذي لم يحصل بشأنه توافق، والذي يعتبر أول قانون اجتماعي يجري إقراره خارج آلية التوافق مع الشركاء الاجتماعيين.
أما على المستوى التشريعي، نذكر مدونة الشغل، فبعد سنوات طويلة من الحوار الثلاثي، جرى التوافق بشأنها وإقرارها سنة 2003، ودخولها حيز التنفيذ في 8 يونيو 2004، وقد اعتبرت آنذاك مدونة عصرية لتدبير العلاقات المهنية، وتستجيب مضامينها للمواثيق الدولية في مجال العمل؛
ثم مدونة التغطية الصحية الأساسية سنة 2002، والتي تعتبر من بين أهم الأوراش التي فُتحت، والتي سمحت بالتأمين الإجباري لفئات الموظفين والمستخدمين والمأجورين وذويهم؛
ورش إصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي -الذي كان مهددا بالانهيار بفعل ما عرفته هذه المؤسسة من انحرافات- بوضع قواعد جديدة لنظام حكامة تدبيره، وجعل هياكله تشتغل وفق القانون الذي ينظمه، ومراجعة نظام التفتيش والمراقبة… ما سمح بالتقدم في توسيع قاعدة المؤمّنين، والتي انتقلت من حوالي 1.6 مليون سنة 2006 إلى حوالي 3.4 ملايين أجيرة وأجير سنة 2018. بالموازاة مع ذلك، كان هناك تقدم في توسيع سلة ما يقدمه من منافع اجتماعية، وضد أخطار الشغل للمؤمنين، مع دخول نظام التأمين الصحي حيز التنفيذ سنة 2006، ومد الحق في الاستفادة من التعويضات العائلية للأجراء بالقطاع الفلاحي سنة 2008، والتوسيع التدريجي لسلة العلاجات المؤمنة للعلاجات المتنقلة ابتداء من سنة 2008، وإدماج التعويض عن فقدان الشغل ضمن التغطية التي يؤمنها الصندوق، وتمكين الأجراء الذين لم يستوفوا شرط 3240 يوما من الانخراط للاستفادة من معاش التقاعد، من استرجاع مساهماتهم مرسملة؛
* قانون التعويض عن حوادث الشغل؛
* قانون تحديد شروط التشغيل والشغل بالنسبة إلى العمال المنزليين؛
* القانونان المتعلقان بمد التأمين الإجباري الأساسي على المرض ونظام المعاشات الخاص لفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا (لم يدخلا بعد حيز التنفيذ)؛
* والمصادقة على عدد من اتفاقيات العمل الدولية المهمة والأساسية.
ما هو واقع الحوار الاجتماعي ومؤسساته خلال هذه العشرينية؟ وكيف تقيمونه؟
من خلال تقييم أداء مؤسسات الحوار الاجتماعي، يمكن القول إنه رغم كل الصعوبات المسجلة، فقد راكم أطراف الحوار الاجتماعي، من نقابات وأرباب العمل، عددا من التقاليد داخل المقاولة، مرورا بباقي آليات الحوار الثلاثي. إلا أن ما يلاحظ، رغم الطابع التقريري للعديد من المؤسسات الثلاثية التركيب، خاصة المجالس الإدارية لمؤسسات الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية والتكوين المهني… فإن جل القرارات المهمة ظلت تتخذ في إطار آلية الحوار الاجتماعي الوطني، رغم أن هذه الآلية، المعمول بها منذ اتفاق 1 غشت 1996، والتي تمخض عنها إبرام خمسة اتفاقات اجتماعية ثلاثية، لا ينظمها أي قانون إلى حدود اليوم، سوى ما جرى التوافق عليه في تدبير جدول أعمال اجتماعاتها، حيث تبقى الدعوة إلى اجتماعاتها بمبادرة من الحكومة، واليوم، في اعتقادي، أصبح مطلوبا مأسسة الحوار الاجتماعي بمقتضى قانون.
كما يلاحظ أن هذه الاتفاقات الاجتماعية، تضمنت العديد من القرارات في موضوع تحسين الدخل والأجور والمنافع الاجتماعية والتوافق على مضامين عدد من التشريعات الاجتماعية الأساسية، ومن تسريع وتيرة التصديق على اتفاقيات العمل الدولية، التي لعبت دورا أساسيا في الحفاظ على السلم الاجتماعي في لحظات كانت صعبة جدا بالنسبة إلى المغرب. كما أن أرباب العمل لم يستعملوا هذه الآلية لطرح مطالبهم إلا نادرا، حيث يلجؤون إلى آليات مباشرة مع الحكومة للدفاع عنها، كما سمح الحوار الثنائي المباشر بين «الاتحاد العام لمقاولات المغرب» والنقابات العمالية بالتوقيع على اتفاقيات ثنائية لتشكيل لجان مشتركة للوساطة لتسوية النزاعات الجماعية للشغل.
إلا أنه يسجل، أنه منذ سنة 2012 انصبت جل جولات الحوار الاجتماعي على مطلب النقابات، بتنفيذ ما تبقى من مقتضيات اتفاق 26 أبريل 2011 وتحسين الدخل. وهو ما جعل هذه الجولات، وإن أثمرت اتخاذ بعض الإجراءات، لا تلبي مطالب النقابات، خاصة أن الحكومة ظلت متلكئة في تنفيذ بعض مقتضيات اتفاق 26 أبريل 2011، وبالتالي، لم يجر التوصل إلى إبرام اتفاق جديد إلا في شهر أبريل الأخير، أي 8 سنوات بعد توقيع آخر اتفاق، مع تسجيل رفض نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التوقيع عليه.
ما هي، في نظرك، نقط الضعف في مجال تشريع الشغل والحماية الاجتماعية والحوار الاجتماعي بالمغرب خلال العشرين سنة الماضية؟
من خلال عدد من الدراسات الوطنية والدولية التي همت التجربة المغربية، والتي أتيحت لي فرصة الإسهام فيها من موقع الخبير، ومنها «مشروع النهوض بالحوار الاجتماعي في جنوب المتوسط»، يظهر أنه رغم التقدم الحاصل، وما جرى تحقيقه من مكتسبات تشريعية مهمة، وما أقره دستور 2011 من حقوق، أصبحت تطرح على المغرب العديد من التحديات بعضها يتجلى في تأخره في تحيين بعض القوانين بفعل التحولات التي عرفها سوق الشغل، وعدم استكمال تشريع الشغل والحماية الاجتماعية، وأخرى تتعلق بالضعف الشديد المسجل في الموارد البشرية من مفتشي الشغل، إلى جانب بقاء آلية الحوار الاجتماعي الثلاثي غير مؤطرة بقانون ينظم أشغالها، إلى جانب استمرار عدد من المقاولات في عدم احترام مقتضيات تشريع الشغل، ما يحرم أجراءها من حقوق أصبحت اليوم حقوقا دستورية، كما يسجل ضعف التوجه بالمفاوضة الجماعية داخل المقاولات في إبرام اتفاقيات جماعية للشغل، ما لم يسمح بتطوير القانون التعاقدي.
فمثلا، بالوقوف على نتائج آخر انتخابات لمندوبي الأجراء سنة 2015، نجد أنها همت 12.084 مؤسسة من أصل 17.019 مؤسسة تشغل 50 أجيرا فما فوق، وأن 4935 مؤسسة لم تشهد تنظيم انتخابات لممثلي المأجورين بها، ما يعني أنه لن يكون بالإمكان إحداث أي مؤسسة من المؤسسات الثنائية للحوار بها، كما أقرتها مدونة الشغل، وبالتالي، عدم مشاركة أجراء هذه المقاولات في الديمقراطية الاجتماعية.
كما أن المؤسسات الوطنية الثلاثية للحوار بالقطاع الخاص ذات الصبغة التشاورية والاقتراحية، كمجلس طب الشغل والوقاية من الأمراض المهنية، ومجلس المفاوضة الجماعية، والمجلس الأعلى لإنعاش التشغيل… يلاحظ أنها عقدت اجتماعاتها الدورية ولو بشكل غير مسترسل، لكنها لم تتطور لتصبح قوة اقتراحية فعالة، ويسجل عليها عموما تراجع في اهتمام النقابات وأرباب العمل بالمشاركة في أشغالها.
وفي باب استكمال تشريع الشغل والحماية الاجتماعية، يسجل التأخر الكبير وغير المبرر في إقرار مدونة التعاضد المحالة على البرلمان منذ سنة 2011، والتي مازالت حبيسة مجلس المستشارين، وصادق عليها مجلس النواب في يوليوز 2016، وهي، في نظري، من القوانين المهمة التي من شأنها تعزيز حكامة تدبير التعاضديات ببلادنا، وكان من شأنها الحد من عدد من الانحرافات التي يعرفها هذا الحقل المهم، والتي وقفت عليها تقارير أجهزة الرقابة والتفتيش في عدد من التعاضديات، وهو حقل لايزال يؤطر، للأسف، بقانون قديم يرجع إلى سنة 1963، وأتذكر هنا فقرة من خطاب للملك في بداية ولايته، دعا فيها إلى «إصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتطهير القطاع التعاضدي».
وفي ما يتعلق بمشروع القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب، والذي أكد الدستور ضرورة إصداره خلال ولاية الحكومة السابقة، والمطروح اليوم على أنظار البرلمان، فإلى جانب أنه كان مطلوبا أن يكون محصلة تفاوض ثلاثي، فإن هناك ضرورة لمراجعة الصيغة الحالية التي جاء بها المشروع، الذي جاء، للأسف، دون مذكرة تقديم له، رغم أهمية هذا النص التشريعي ومكانته، كما أنه يتضمن العديد من المقتضيات التي من شأنها أن تمس بحق الإضراب، ومن شأنها الإسهام في إضعاف النقابات، في حين أن المطلوب هو تعزيز دورها التأطيري.
مثلا، تحصر الصيغة الحالية للمشروع حق الإضراب، فقط، في الأجراء والموظفين بعد استيفاء مجموعة من الشروط، ولا تشير إلى المهنيين وذوي المهن الحرة وباقي الفئات النشيطة، منهم أرباب العمل… هل صودر حقها في ممارسة هذا الحق؟ فالمشروع لا يجيب عن ذلك. وبالتالي، حسب اعتقادي، فإن الصيغة الحالية من شأنها أن تمس بالمكانة المتميزة التي تحتلها بلادنا على المستوى الدولي والعربي في مجال التشريع الاجتماعي، ويمكن أن تكون هناك مساءلة بشأنها في عدد من المنتديات الدولية للعمل، كما أنه كان من الصواب أن يكون تقديم هذا المشروع مقرونا بتقديم قانون النقابات المهنية، لترابطهما الوثيق.
كما يسجل أنه رغم التقدم الحاصل في التصديق على عدد من اتفاقيات العمل الدولية، لم يقع، للأسف، التصديق بعد على الاتفاقية رقم 87 الخاصة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي، والتي سبق للحكومة أن التزمت بالتصديق عليها بمقتضى اتفاق 26 أبريل 2011 واتفاقات سابقة، والتي، في واقع الأمر، لا تطرح صعوبات كبرى للتصديق عليها، فجل مقتضياتها معمول بها، والمغرب، في نظري، مؤهل أكثر من غيره من الدول العربية التي صادقت عليها.
هناك نقطة أخرى مازالت عالقة، وهي المتعلقة برفع التمييز في الأجر بين أجراء القطاع الفلاحي وباقي الأجراء، من خلال توحيد الحد الأدنى للأجر المقبول بإلغاء «سماك»، كما جاء في اتفاق 26 أبريل 2011.
كما يسجل أن أحد القوانين التي أكدتها المادة 4 من مدونة الشغل، وهو القانون المتعلق بالأجراء والمقاولات ذات الطابع التقليدي الصرف، والتي تشغل أقل من 5 أجراء، ويهم زهاء 2.5 مليون أجير، لم يكتب له إلى حدود اليوم الصدور.
بالموازاة مع ذلك، لا يمكن الحديث عما تحقق من تقدم في المجال التشريعي، دون تسجيل نقطة الضعف المسجلة في عدم تمكين وزارة الشغل من الموارد البشرية الضرورية لقيام جهاز تفتيش الشغل بأدواره كاملة. فما يسجل اليوم هو تراجع مهول في أعداد مفتشي الشغل إلى أقل من 400 مفتش(ة) ممارس(ة)، ما يعيق بشكل كبير مهام التفتيش والمراقبة، خاصة مع التوسع الكبير الذي عرفه النسيج الاقتصادي والمقاولاتي ببلادنا خلال العشرين سنة الماضية.
كما أصبح مطلوبا فتح حوار للتوافق على مراجعة بعض مقتضيات مدونة الشغل، في اتجاه تمكين بلادنا من مدونة تساير وتقنن العديد من التحولات التي عرفها سوق الشغل، فاليوم، مثلا، ما يصطلح عليهم بـ«الفريلانس» لا مكان لهم في مدونة الشغل، وغيرهم من الفئات، كما أن عقد العمل المحدود المدة، الذي يشكل الاستثناء وفق مدونة الشغل، أصبح هو القاعدة، كما لا يعقل أن تبقى هناك مقاولات تخرق حقوقا دستورية، كالحق في التغطية الصحية والاجتماعية، ولا يجرم فعلها، إلى جانب مراجعة بعض المواد التي بينت الممارسة صعوبات في تطبيقها، كما أننا سنواجه لا محالة انعكاسات ما يسمى «الثورة الصناعية الرابعة» على سوق الشغل… ما يقتضي التوفر على تشريع مواكب.