جمال بدومة يكتب: في سبيل الله!

24 ديسمبر 2019 - 19:07

عدد المتسولين في الشارع أصبح يفوق عدد الناس العاديين. بالإضافة إلى المغاربة الذين اضطرتهم الظروف إلى ذلك، ومن اتخذوا منها مهنة لأنها تجلب مالا سهلا، هناك الأجانب الذين تقطعت بهم السبل، بسبب الحروب والمآسي السياسية والاجتماعية. الظاهرة مزعجة، تجعل الإنسان يتأرجح بين التعاطف والغضب، بين «السينيزم» وعقدة الذنب…

اليوم، أعطيت عشرة دراهم لشخص أمام «أسواق السلام».  لم أعرف في البداية أنه متسول، لذلك نفحته النقود، كي اعتذر منه على الأرجح. كنت أركن السيارة عندما لمحته يشير عليّ أن أدير العجلات ذات اليمين وذات الشمال، ويقوم بتلك الحركات البهلوانية التي لا تصلح لأي شيء، سوى لتنبيهك أن المكان يوجد به حارس سيارات، ولا بد أن تدفع قبل المغادرة. انتابني ذلك الشعور الذي يجعلك مترددا بين التعاطف مع المسكين والصراخ في وجهه، لأنك لست محتاجا إلى خدماته، ولا مسؤولا عن عطالته، ولا وزيرا في الحكومة. عندما خرجت من السيارة، سلمني بطاقة وهو يبتسم، دون أن ينبس ببنت شفة. استعطاف غريب. استجداء صامت، لا يصدر أبدا عن حارس سيارات. نقلت عيني بين البطاقة وبين شفتيه المزمومتين، وأدركت أن الشخص لا يتكلم. أصم وأبكم يبيع أوراقا تشرح لغة الإشارة، وكي يسترعي انتباه الوافدين على «السوبر مارشي»، يساعدهم في ركن سياراتهم، ربما، لأن «مهنة» حارس السيارات تعتمد على الإشارات فقط. الكلام الكثير يفسد «الحرفة». على البطاقة رُسمت حركات الأصابع بالأبيض والأسود ومقابلها بالحروف الأبجدية. تأملت الحركات قليلا وحاولت أن أقلد بعضها، لكنني انتهيت بأن رميتها في سلة القمامة. إذا صرت أصما في يوم من الأيام لا أريد أن أتواصل مع أحد، أفضل أن أخلد إلى الصمت، أن أسبح في اليأس والملل لوحدي حتى النهاية…

عندما فرغت من التسوق، وبينما كنت أدفع «الشاريو» في اتجاه السيارة، أحسست بيد صغيرة تمسكني من البنطلون: «عمو ساعدنا الله يخليك، احنا لاجئين سوريين!»… نظرت للطفلة مصعوقا. عمرها لا يتجاوز سبع سنوات. جميلة وبريئة بشكل لا يصدق. أحسست أنها يمكن أن تكون من العائلة أو الجيران أو هاربة من أحد المسلسلات. كانت تستعطفني وهي تشير إلى امرأة في الجهة الأخرى. نظرت للمرأة المحجبة الواقفة على بعد أمتار، ولمحت يدها تلوح بجواز سفر سوري… هذا الجواز الملعون بات صالحا لكل شيء: يتسول به المشردون، يبيعه المهربون، يستعمله العالقون في أوروبا كي يحصلوا على اللجوء، يستخدمه الإرهابيون كي يموهوا هوياتهم… سوريا التي كانت رمزا للشهامة والنخوة والعزة، تحول أبناؤها إلى متسولين على عتبات العالم. اللعنة على الحروب!

في شارع «النخيل»، وقفت في الضوء الأحمر. اقتربت مني إفريقية تحمل على ظهرها طفلا، وفي يديها علب كلينيكس. كانت نافذة السيارة مفتوحة. مدت في اتجاهي علبة وهي تردد بعربية مكسرة: «آفاك، في سليب الله»… لم أستطع أن أمسك الضحكة. كانت عندي علبة كلينيكس، لكنني أخذت منها واحدة، وأعطيتها عشرة دراهم، كي أكفر عن الضحكة. ردت: «شكرا» قلت لها بصوت مرتفع: «ماشي في سليب الله، في سبيل الله»، رددت وهي تتهجى الحروف: «في سليب الله!» حركت رأسي علامة على عدم الموافقة، لكنها ابتسمت ورفعت يدها على سبيل الشكر، ثم ذهبت إلى حال سليبها!

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي