محمد الشرقاوي: بالمغرب هناك جهات تعمل في الظل تشعر بأنّها تخوض "صراعا وجوديا"- حوار

25 يناير 2020 - 12:00

هل يلتقي المشرق والمغرب في حقبة الأزمات الكبرى؟ احتمال أن تدور إدارة العلاقات الأمريكية المغربية والمغاربية حول فلك ما تنتجه دائرة الصراع الأمريكي الإيراني، هو قدر محتوم بحكم وصاية لم تخترها الدول المغاربية.

هذا ما يحملنا إليه تحليل لواقع الأزمة الجديدة في الشرق حين يؤكد محمد الشرقاوي، أستاذ فك وتحليل النزاعات الدولية بجامعة جورج ميسن بالولايات المتحدة الأمريكية، أن زمن الأسوار العالية بين ما يحصل في الشرق والغرب، انتهى.

وبعين المغربي الأمريكي والخبير سابقا، بالأمم المتحدة، يأخذنا للحديث عن “شطحات ترامب” ولمفارقات إقصاء المغرب من اجتماع برلين حول الأزمة الليبية و”تقوقع” الدبلوماسية المغربية في مربع “الانتظارية”، لما وراء تهديد المغرب بتمزيق اتفاقية التبادل الحر مع تركيا ومغامرة الولاء المغاربي لباريس، في ظل بداية أفول المد الفرنكفوني.

 وأمام الرياح الساخنة المقبلة من الشرق ومن جيران المغرب، يلفت الشرقاوي الانتباه أن الإمعان في الاتكال على النسق الأمني لمواجهة الاحتجاجات بالمغرب سيغدو نقمة في المدى البعيد، في ظل “تراجع القدرة على الابتكار السياسي لدى النخب الأمنية والسياسية” .

الشرقاوي: لم يخرج الشأن المغربي والمغاربي من دائرة الشرق الأوسط في خطط الأمريكيين إلا ليدخل دائرة المعركة الكبرى: أمريكا وإيران!

بمنطق تحليل الأزمات، كيف تقيّم تعامل إيران مع أزمة الطائرة الأوكرانية التي أسقطها سلاحها الجوي بعد أيام من اغتيال الجنرال قاسم سليماني بقذيفة أمريكية في بغداد؟

إقرار طهران بالمسؤولية بسبب سوء تقدير أحد ضباط الحرس الجمهوري وملاحقته قضائيا خطوة إيجابية، على طريق إدارة الأزمة مع أوكرانيا وكندا وبقية الدول التي توفي بعض مواطنيها في الحادث.

وينبغي استحضار ضبابية الموقف المتأزم مع واشنطن ووعيد الرئيس ترامب بشن هجمات مرتقبة وسط توتر الأعصاب والأرق النفسي عقب اغتيال ثاني أهم شخصية في إيران. فكان من الضروري وضع إعلان المسؤولية عن تحطم الطائرة المنكوبة على الطاولة أوّلا، وتحوّل طهران إلى إدارة الأزمة مع العواصم الغربية التي انقسم بعضها إلى دول تتقبّل اعتذارها عن حدوث “خطأ بشري” والتعاون في استكمال التحقيقات وبحث طبيعة التعويضات المرتقبة إلى أسر الضحايا، ودول تسعى لليّ ذراع إيران واستغلال الأزمة استغلالا سياسيا بوضع الإيرانيين في الزاوية وترجيح كفة البيت الأبيض إلى أبعد مدى ممكن.

والآن، يتعّين على إيران أن تتفادى تداخل الأزمتين معا: اغتيال سليماني وإسقاط الطائرة الأوكرانية حتى لا توظفهما بعض العواصم غير الصديقة على طريقة دسّ سيف آخر في عنق الثّور الجريح.

هل أساء ترامب التقدير أم هي الثقة الكبيرة في أنه يقبض استراتيجيا على حاضر ومستقبل الخليج؟

كان استهداف سليماني مجازفة سياسية أقدم عليها ترامب كمخرج من أزمته مع الديمقراطيين في الكونغرس، باتجاه محاكمته هذا الأسبوع في مجلس الشيوخ. فقرر افتعال أزمة خارجية قد تخفي بظلالها أزمته الداخلية، فيتحوّل خطابيا إلى “زعيم” الأمن القومي وأنه من “سيحمي” حمى الولايات المتحدة، وهي في “حالة حرب” مع خصم شرس في الخليج.

ويبدو لي من متابعاتي شبه اليومية منذ إعلان ترامب ترشيحه لانتخابات الرئاسة يوم 15 يونيو 2015 أنه من دعاة ميكيافيلية جديدة تقوم على خطة متواترة، هي إدارة أيّ أزمة بافتعال أخرى. هو رئيس تصريف الأعمال بين الأزمات المفتوحة ما بين أزمة كويا الشمالية، وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وتصنيف الجولان أرض “سيادة إسرائيلية”، والتحلل أحاديا من الاتفاق النووي مع إيران.

وأخيرا، التعويل على سياسة الاغتيالات السياسية التي لا يقبلها أغلب الأمريكيين، ويتوجس منها أغلب المشرعين في الكونغرس الذين قرروا قبل أيام، الحدّ من صلاحياته في إعلان الحرب على دولة أجنبية.

قرار أمريكي أم مغامرة ترامبية؟

هي شطحة سياسية متشنّجة كانت وليدة الشعور بانحسار سياسي يعانيه ترامب جرّاء قرب محاكمته في الكونغرس.

فقرار ترامب اغتيال سليماني أوّل العام يجعله يقترب من سلوك سلفه الجمهوري ريتشارد نيكسون إبّان الحرب مع فيتنام. ثمّة خطوط متوازية بين الرجليْن ضمن نظرية حديثة في العلاقات الدولية هي نظرة “الرجل المجنون” Mad man theory التي ارتبطت بنيكسون، الذي لوّح خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 1968 بأربع قناعات عميقة الجذور في تفكيره، يتردّد صداها أيضا في تصريحات ترامب: أوّلا، كان نيكسون واثقا من أنه سيجبر هانوي على تقديم تنازلات لمطالبه الدبلوماسية، وهذا ينطبق على ترامب بشأن تطويع إرادة طهران للتفاوض حتى في عز التصفية الجسدية لشخصية عسكرية تأتي أهميتها مباشرة بعد مكانة المرشد خامنئي. 

ثانيا، تهديد نيكسون بإطلاق العنان للقوة العسكرية المتطرفة ضد فيتنام الشمالية. وقد لوّح ترامب، أيضا، بالتفوق العسكري لبلاده كعامل ردع استباقي، وأنّ لديه أقوى سلاح متطوّر، وأن ميزانية البنتاغون هذا العام تفوق 700 مليار دولار، وهي أكبر من الميزانيات العسكرية لثماني دول أوروبية مجتمعة (فرنسا، بريطانيا، روسيا، كوريا الجنوبية، اليابان وغيرها).

ثالثا، نبّه نيكسون هانوي إلى أنّ استخدام القوة الأمريكية قد تشمل استخدام سلاح نووي واحد أو أكثر. واليوم، يتوعّد ترامب بضرب 52 موقعا مهما من الناحية الاستراتيجية والثقافية بالنسبة إلى الإيرانيين.

رابعا، كان نيكسون يعزو مصداقيته إلى شهرته “مقاتلا سياسيا صعبا ومفعما بالحيوية ولا يمكن التنبؤ بقراراته، ولا يتوقف عند حد معين”، وأنه قادر على تنفيذ “تدابير عسكرية غير عقلانية أو مفرطة”.

ولا يبتعد عن هذا المنحى الخطابي والادعائي أسلوب ترامب حاليا، فتتداخل أوج الشبه بين تعامل نيكسون مع أزمة فيتنام قبل 52 عاما وإدارة ترامب لأزمته الرّاهنة مع إيران. فوصل ترنّح ترامب إلى حدّ قرار منع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من دخول الولايات المتحدة لتقديم موقف بلاده في الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن في نيويورك، وإن كانت الأمم المتحدة منظمة دولية، وليست مؤسسة أمريكية. وهذا انتهاك لاتفاقية مقر الأمم المتحدة التي وقعتها الولايات المتحدة عام 1947، ويشبه قرارا سابقا اتخذته حكومة ريغان لمنع ياسر عرفات من الوصول إلى الأمم المتحدة عام 1988.

كيف تحلّل لغة الوعيد والتفاوض في خطاب ترامب تجاه الإيرانيين؟

يعتقد ترامب أنه يستطيع الجمع بين الترهيب والترغيب في تطويع خصومه برفع مستوى التهديد والوعيد، وكأن ساعة الطوفان قد حلّت، وفتح نافذة المفاوضات على أمل أن يستفرد بفرض الشروط وحمل الطرف الآخر على قبولها.

في أكثر من مقابلة خلال السنوات الثلاث الماضية، قلتُ إن إيران ستظل بمثابة “كيس الرّمل” الذي يحتاج “الملاكم” ترامب الضرب فيه واستغلال رمزية العداء اليميني لإيران منذ أزمة الرهائن عام 1979.

وينبغي أن نستحضر، أيضا، أن ترامب يتمسّك بالحفاظ على رضا الأوساط الإنجيلية ومن يُعرفون بالمسيحيين المتصهينين، وهم من يمثلون القاعدة الانتخابية التي أيّدته عام 2016 ويعوّل على تأييدها مجددا في اقتراع الثالث من نونبر المقبل.

يبدو أن ترامب يرى في كيل العداء لإيران وتوجيه الوعيد إليها، بعد عام ونصف من التحلل من “الاتفاق النووي” الذي توصّل إليه سلفه أوباما في 15 يونيو 2015، ضرورة استراتيجية لتحريك الرأي العام والاستفادة أكثر ما يمكن من ورقة إيران وأن “أمريكا في حالة حرب”، وهو أسلوب متواتر الاستخدام لدى الرؤساء، خاصة الجمهوريين مثل بوش الابن (حرب أفغانستان 2001، وحرب العراق 2003)، وترومان (حرب كوريا 1950)، وروزفلت (حرب اليابان 1941). وقد وصل عدد حالات إعلان الرؤساء الحرب على دول أجنبية دون ترخيص من الكونغرس، إلى 125 حالة، خلال 244 عاما منذ قيام أمريكا. 

هل إيران قادرة على قلب موازين القوى في الخليج؟

أوّلا، لم يعد هناك ميزان قوّة مستقرّ منذ التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، بل مجرّد ميزان هش بفعل ضعف نشاط حكومات المنطقة كالعراق وسوريا واليمن ولبنان، وحتى السعودية، ونشاط القاعدة وداعش وميلشيات أخرى جعلت عواصم المنطقة في خانة ردّ الفعل ولم تعد لديها القدرة إلى حد كبير على صناعة الفعل، لا السياسي ولا العسكري.

بيد أن أهمية إيران، حاليا، تكمن في أنها تجمع بين عضوية حلف دولي مؤثر مع روسيا وتركيا من ناحية، ودعم أذرعها العسكرية والسياسية والمذهبية في أربع عواصم استراتيجية: بغداد، بيروت، دمشق وصنعاء، فضلا عن تأييدها السياسي واللوجستي لحركة حزب الله في لبنان، وحركتي “الجهاد الإسلامي” و”حماس” في غزة، وحركة “فاطميون” في أفغانستان، وغيرها من الجماعات الموالية لها.

وكلما تحرك ثقل العلاقات الدولية نحو الشرق وعزم ترامب سحب قواته من المنطقة، أصبح محور موسكو/طهران/أنقرة الأكثر قدرة على التحكم في المفاتيح الرئيسة للشرق الأوسط في العقد الثالث من القرن الجديد.

إذن، كقوّة إقليمية تُحْسن استراتيجية التوسّع غير المباشر والتوافقات السياسية مع موسكو وأنقرة، أصبح لإيران دور مركزي في بلورة ما أعتبرها شخصيا “حتميات استراتيجية”، منها أن تأجّج الصراع الأمريكي الإيراني سيرغم الدول العربية كافة على تحديد وقوفها، إما في هذا الطرف أو ذاك، أي الاصطفاف مع قوة عظمى أم مع قوة إقليمية.

بعبارة أخرى، لدينا مشروع ميزان قوة جديد تتشابك في مصالح قوى عظمى (روسيا) مع مصالح قوى إقليمية (إيران وتركيا)، مقابل ارتباطات موازية (الولايات المتحدة، إسرائيل، السعودية والإمارات). أصبحت التحالفات مركّبة ومتنوعة، فيما تتقوقع كافة الدول العربية الأخرى في مربع رد الفعل وتحمّل تبعات الصراع.

وقد تجد دول الخليج العربية نفسها مضطّرة لتسديد نفقات أعلى لمكافأة ترامب على توفير الغطاء الأمني لأراضيها ومجالاتها الجوية.

الردّ الإيراني، هل كان في مستوى الوعيد؟

يبدو أن هناك تباينًا في مواقف طهران، أو صراعَ أجنحة، حول المرشد خامنئي بشأن تحديد طبيعة العملية ومداها أو الرد الانتقامي من الولايات المتحدة للثأر من اغتيال شخصية إذا ترجمناه إلى السياق الأمريكي، يكون بمثابة اغتيال إيران نائب الرئيس مايك بنس، حسب قراءة ستيفان والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد. هناك مدرسة تفكير في طهران تريد استهداف مواقع وجنود أمريكيين وإرسال نعوش القتلى إلى واشنطن كما فعل الفيتناميون إزاء نكسون.

ويعلم الإيرانيون أن صور استقبال الرئيس ترامب أي ضحايا ستقلب عليه الرأي العام الأمريكي، الذي لم يتعاف بعد من الجروح النفسية الغائرة منذ نهاية حرب فيتنام. في المقابل، يتريث الجناح المعتدل في طهران، وأغلبه من الإصلاحيين مثل الرئيس روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، بعدم المجازفة في دفع رئيس متقلب الأطوار في البيت الأبيض وعدم مجاراته باتجاه المواجهة المسلحة.

وإزاء هذا السجال بين الجناحين، يظل الباب مفتوحا على سيناريو ثالث وهو تصريح طهران بأن الهجوم الصاروخي على قاعدة “عين الأسد” في محافظة الأنبار العراقية يوم 8 يناير كان “سقف” الانتقام الإيراني. لكن هذا لا يلغي احتمال أن تتولى أذرع إيران في عدة دول أخرى عملية الرد بهجمات متقطعة لإرباك خطة الرئيس ترامب المرشح مجددا في عام الانتخابات الرئاسية. وقد يدخل استهداف مواقع في دول الخليج الموالية للولايات المتحدة المنطقة في دوامة حرب وكلاء وسط نفي طهران المسؤولية.

هل الحديث عن استمرار “الانتقام” كلام موزون بلغة العلاقات الدولية والربح والخسارة الآنية والاستراتيجية، أم مجرد تعبير عن المشاركات العاطفية والغضب؟

هناك مسافة ليست بالقصيرة بين المواقف الخطابية أمام الكاميرات في طهران كما في البيت الأبيض في واشنطن، وكواليس التخطيط الاستراتيجي داخل غرف العمليات وحسابات المستقبل لدى الجانبين ضمن شبكة متداخلة من الاعتبارات الإقليمية والدولية لأي إجراء مقترح على الطاولة.

الرأي الرّاجح، حاليا، في إيران هو تفادي الاستفزاز المباشر لترامب وتجنّب مسار المعادلة الصفرية 0-sum equation في مواجهة وعيده اللامتناهي، أي تجنب مواجهة مباشرة قد تدفع ترامب وجنرالات البنتاغون إلى إمطار سماء طهران بالقذائف الصاروخية، على غرار ما فعله بوش في بغداد عام 2003.

أيضا، يظل تحريض إيران على قتل أرواح أمريكية المنطلق المستحبّ لدى ترامب، فهو لا يريد الحرب ولا التسبب في إنفاق ميزانية إضافية في الخليج والشرق الأوسط، وإنْ كان يستخدم خطاب “الوعيد بالحرب” لحمل الإيرانيين على الجلوس إلى مائدة المفاوضات.

من الناحية الخطابية، قد يظهر ترامب بمثابة صيغة أمريكية معاصرة لأوتو بسمارك، الزعيم الألماني، الذي وسّع نفوذ بلاده في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكنّ ترامب ليس بسمارك الفعل العسكري أو البرغماتية الميدانية. 

كانت هناك ضرورة الخطاب الداخلي في إيران بكل الرمزية العاطفية عقب مقتل سليماني مالذي أجج مشاعر القومية الإيرانية. والآن، يدخل المزاج السياسي الإيراني مرحلة ما بعد الانفعالية لتركيب استراتيجية التركيز العقلاني إزاء واشنطن. وتأخذ طهران في حساباتها اثنين من السيناريوهات متوازية الأهمية: كيف يمكن تقويض مسعى طريق ترامب نحو انتخابات 3 نونبر المقبل، واحتمال نجاحه في البقاء رئيسا في البيت الأبيض حتى عام 2024.

تصاعدت حرب رمزية بالكاريكاتير وإعادة رموز دينية في التداول الإعلامي والتأثير على المتلقين (صورة الحسين والمسيح مثلا)، ما هي أهمية ذلك في نظرك؟

هي عدائية سياسية تتغذى بما هو ثقافي ديني وتاريخي بين طهران وواشنطن. ولاحظنا كيف تحوّل الموقف بسرعة عقب مقتل سليماني إلى حرب صور ورموز “التقديس” ومعارك ثقافات. فجاء التصعيد متشبّعا بتوظيف موروثات ثقافية ورموز العداء التاريخي عندما لوّح ترامب بإمكانية استهداف 52 هدفا كناية عن 52 عدد الرهائن الذين تم احتجازهم داخل السفارة الأمريكية في طهران عام 1979.

بيد أن الإيرانيين ذهبوا خطوة أبعد بنشر الصورتين الشهيرتين تظهر إحداهما عناقا “مقدسا” بين الجنرال سليماني والإمام الحسين، والثانية انضمام الجنرال سليماني إلى المرشد الخميني وبقية الراحلين من القادة الدينيين والسياسيين الإيرانيين. وفي المقابل، ظهرت صورة المسيح يحضن ترامب في البيت الأبيض. 

هي بالأساس ثلاث صور تكرّس حمولات تأويلية متناقضة في مغزاها في عصر أصبح أغلب الجمهور يشاهد ولا يقرأ، يتفاعل مع الرموز ولا يتأمل في المعاني، بل يجترّ دلالات وانطباعات جاهزة على الرفّ عن العدائية المزمنة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي أكثر من التفكير في مكامن الالتقاء بينهما، خاصة عند تقاطع الديانات والبعد الإنساني الشامل.

 وقد انجرّ الطرّفان، من حيث لا يدريان، إلى مغازلة أطروحة صامويل هنتنغتون بشأن صراع الحضارات ضمن حرب باردة جديدة عقب انهيار جدار برلين وهزم المعسكر الرأسمالي خصمه الشيوعي في أوروبا الشرقية. كما هو حال كل صراع، يتراجع العقل النقدي الذي يسائل الأحكام والموروثات الثقافية ليفسح المجال أمام تصورات انشطارية وانطباعات سلبية وتصنيف الذات الجماعية والآخر، بين “نحن” و”هم”، عبر ميزان “حسناتنا”، مقابل “سيئاتهم”.

والمثير هنا أن النخبة المثقفة نفسها قد تسقط في فخ الانطباعية الجاهزة وتعزيز نرجسية الاختلاف وليس التفاعل المتنور بالمعرفة وقياس العلاقة مع الآخر بضوابط واقعية وليس مجرد إسقاطات ذاتية. ليست وحدها السياسة اللعينة ونظريات المؤامرة وشيطنة الآخر، بل هناك أيضا الإعلام الذي ينزع نحو ضخ مزيد من العدائية بسرديات مسمومة من أجل شيطنة الآخر وتجريده من أي اعتبار إنساني.

هي سلفيات إعلامية تبيع الإيديولوجية بين واشنطن وطهران لتعزز موقف اليمين الترامبي وموقف المحافظين تحت وصاية المرشد خامنئي. هذه طبخة كل صراع تتبادلها الأطراف في شتى الجغرافيات، وتنسج على منوالها مختلف التيارات السياسية اليمينية، ويستفيد منها بضعة وجوه قيادية من أجل الاستقطاب الداخلي والترويج لنظرية “العدو المتربص بالوحدة الوطنية وحرمة السيادة”.

هل سنشهد اصطفافات أخرى بين محورين كما في زمن الحروب؟ وهل ستتغير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة العربية؟

ما يحدث هذا العام هو تماسك ثلاثة اتجاهات محورية في العلاقة الدولية في تنافس عدة قوى دولية وإقليمية على النفوذ في المنطقة بين الخليج والمحيط. هناك المحور الرئيس الذي تتزعمه الولايات المتحدة، بالتنسيق مع إسرائيل والإمارات والسعودية والبحرين ومصر، بعدما تراجعت الآمال في توسيع عضويته بتحفيز دول أخرى مثل الأردن وتونس والمغرب.

ولاحظنا الضغوط التي مارستها واشنطن والرياض على عدة عواصم لتأييد ما يعرف بـ”صفقة القرن” وحضور اجتماع المنامة في غشت الماضي.

هناك المحور الثاني، الذي تتزعمه إيران من خلال مسك يد بعض القوى السياسية في العراق وسوريا واليمن ولبنان والأراضي الفلسطينية، ضمن تكتل يسمي نفسه “محور المقاومة”، ويسعى إلى تضييق الخناق على المحور السابق. 

تجد روسيا، بوتين، في هذا الوضع المرن رصيدا استراتيجيا يساعد في توسيع نفوذ موسكو في المنطقة الممتدة من دمشق إلى طرابلس، مرورا بالقاهرة، مع الحفاظ على خيارات ممكنة في الأزمة الليبية برعاية مبادرة التوافق التي لم تتم بين الجنرال خليفة حفتر الزعيم العسكري لمعسكر الشرق وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني في الغرب الليبي. وغير بعيد عن هذه التقاطعات، تتخذ تركيا أردوغان بتأييد من البرلمان في أنقرة للإنزال العسكري في منطقة طرابلس من أجل دحر طموح حفتر في السيطرة على جميع الأراضي الليبية.

وإذا نجحت تركيا في كسر شوكة حفتر ومن خلفه مسلحي الجيش الليبي، ستزداد معنوياتها في أن تغدو لاعبا ميدانيا يتفوق على بقية الدول التي تريد لعب أوراقها في الأزمة الليبية مثل الإمارات والسعودية وفرنسا.

وضع العراق والسعودية في الأزمة التي اندلعت..

العراق سيظل أرض النزاع الإيراني الأمريكي، ولن تتمكن طهران وواشنطن إخراج بعضهما بعضا من العراق. أمّا الوضع الراهن للسعودية، فينم عن أكثر من مفارقة سياسية واستراتيجية. تجد نفسها بين كمّاشتي نفوذ متزايد بفعل خطط إيران وتركيا في المنطقة، وإن كانت تقرأ الكثير في العلاقات الإيجابية تاريخيا مع الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من تسلحها بأحدث المعدات العسكرية الأمريكية وغيرها، أصبح الحوثيون في اليمن أكثر قدرة على التهديد المباشر وقصف مواقع حساسة مثل منشآت “أرامكو” وقبلها المطار والقصر. وليس من المستبعد أن تأتي بعض الضربات الانتقامية على اغتيال سليماني باتجاه أهداف سعودية لتوجيه رسائل أخرى إلى ترامب.

هل سيعدل الحدث من خريطة الحلفاء والخصوم لدى قطر في الخليج؟

يبدو أن قطر في وضع أفضل من بقية دول الخليج العربية في الاستفادة من ميزان القوة الهش هذه المرحلة. فهي تتمتع بعلاقات قوية عقب بدء حوارها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وتحافظ على علاقات حيوية مع إيران وتركيا اللتين كانتا في صفها منذ الأسبوع الأول من الحصار الذي فرضه الرباعي (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) في الخامس من يونيو 2017.

قد يكون من صالح الدوحة أن تتبنّى حيادا إيجابيا، فوق كل اعتبارات الأزمة الراهنة، بأن تعرض مبادرة وساطة فردية أو بالتنسيق مع سويسرا أو ألمانيا من أجل إيجاد آلية دولية لتغليب منطق التريث وضبط الأعصاب واحتواء الأزمة بدلا من ترك العنان للتعاظم والتعنت والمكابرة لدى واشنطن ترامب وطهران خامنئي. ولدى قطر سجل جيد في الوساطة في عدة صراعات منها دارفور ونزاع فتح وحماس، وأحدثها رعاية المفاوضات المفتوحة بين واشنطن وحركة طالبان الأفغانية.

هل من المرتقب أن يكون لذلك انعكاس على المغرب الكبير؟

تظل تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا منطقة تجاذب غير محسوم بين ثلاث دوائر نفوذ:

 بين الأمريكيين باتجاه حسابات مكافحة الإرهاب وتأييد “صفقة القرن”، والخليجيين خاصة طموحات الإمارات والسعودية في استدامة عمر بعض الأنظمة وتقويض بعض المؤسسات والممارسات السياسية الجديدة التي أنتجتها انتفاضات 2011، والاستراتيجية التركية ضمن مشروع أردوغان الذي استقاها من اقتراح وزير الخارجية السابق أوغلو بالانفتاح السياسي والثقافي على الغرب العربي باتجاه أنقره-الرباط.

تتنافس هذه التيارات الثلاثة على دول المغارب في مرحلة يتقلص تأثير الفرنسيين في أفريقيا، فيتمسّكون أكثر فأكثر بعلاقاتهم مع النخب الفرنكفونية بحكم تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية، وقد يكون التصعيد الراهن بين واشنطن وطهران مناسبة سانحة لدبلوماسية الدول الأربع لتقييم حساباتها الاستراتيجية باتجاه الغرب والشمال والشرق.

 ويبدو أن تركيا قد بلورت استراتيجية تجمع بين الإنزال العسكري في ليبيا، والتقارب السياسي مع تونس والجزائر، والتعاون الاقتصادي مع المغرب. وينبغي أن نتأمل جيدا الخلفيات التي دفعت المغرب قبل أيام إلى طرح خيارين أمام تركيا: “إما مراجعة الاتفاقية والتوصل إلى حلول، وإما تمزيقها”.

هذه ثلاثية مؤثرة في نشوة تركيا بنفسها باعتبارها قوة إقليمية تريد التوسع، وقد ضمنت عدم معارضة كل من موسكو وواشنطن، وهذا أمر لا يستهان بدلالته الاستراتيجية تمهيدا لأن تصبح من بين الدول المؤثرة، إن لم نقل الأكثر تأثيرا، في تحولات منطقة البحر المتوسط إذا أخذنا بعين الاعتبار كيف تخوض المعركة بشأن التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط في الحاضر والمستقبل.

أشرت إلى “تقلص” تأثير الفرنسيين.. كيف ذلك؟ 

لا يتراجع التأثير الفرنسي في المغرب الكبير وبقية إفريقيا فحسب، بل يشهد المد الفرنكفوني، لغة وثقافة وسياسة واستراتيجية أيضا، انحسارا غير مسبوق داخل القارة الأوروبية وفي منظمات الاتحاد الأوروبي أمام الإنجليزية والألمانية. وتُظهر الإحصائيات أن نسبة 41 في المائة من الأوروبيين يتحدثون الإنجليزية، مقابل 19 في المائة بالفرنسية. وينبغي كذلك استحضار حكم الاقتصاد السياسي في التنافس الفرنكفوني الأنغلوساكسوني، إذ وصلت ميزانية منظمة الفرنكفونية عام 2008 إلى 6 ملايين يورو، بينما ازدادت ميزانية المجلس البريطاني إلى 150 مليون يورو لتمويل جهود نشر اللغة والثقافة الإنجليزية.

بيد أنّ القوميين الفرنسيين يعوّلون على احتمالين اثنين: أولهما، استدامة ولاء النخب السياسية والمثقفة فرنكفونيا لها في دول جنوب المتوسط. ثانيا، الأمل في الديمغرافية واحتمال أن يصل عدد الناطقين بالفرنسية في دول الصحراء الإفريقية إلى 750 مليون نسمة عام 2050. لكن أوضاع العالم حقيقة تؤكد حتمية أننا في حقبة ما بعد الفرنكفونية، وأنّ الولاء المغاربي تاريخيا لباريس موليير، قد يهدّد بالبقاء داخل دائرة ضيقة مغلقة، يمكن أن تصل بمجتمعات المنطقة إلى حدّ الاحتباس السياسي والاختناق الثقافي بين أنغلوفونيات العالم.

كيف تفسّر عدم دعوة المغرب إلى اجتماع برلين لبحث الأزمة الليبية؟ 

ثمّة أكثر من مفارقة من وراء تجاهل المغرب الذي استضاف اتّفاق الصخيرات، وهو أهم اتفاق سياسي وأعلى إنجاز دبلوماسي توصّلت إليه الأمم المتحدة بتأييد كل الأطراف الليبية والإقليمية والدولية منذ اندلاع الأزمة عام 2011.

وبالنّظر إلى تعثّر اجتماع موسكو الأسبوع الماضي وتواضع إنجازات اجتماع برلين الذي لم يحقّق أكثر من تعهد الدول المشاركة باحترام حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، يظل اتفاق الصخيرات هو المرجعية الرئيسة لمسار جنيف المرتقب في مسار الأزمة.

ثانيا، لم يتم توجيه الدعوة إلى المغرب، وجاءت دعوة تونس متأخّرة قبل 24 ساعة من موعد الاجتماع: هما دولتان ساندتا اتفاق الصخيرات وتتمسّكان بالحل السياسي وليس العسكري للأزمة، مما يتعارض مع توجهات بعض الدول. في المقابل، حضرت إلى برلين دول مثل تركيا ومصر، والإمارات، وروسيا التي تقول عنها لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، والتي عملتُ فيها شخصيا، إنها تنتهك الحظر الدولي على تصدير الأسلحة إلى ليبيا.

ليس هذا المنطق المنشود من الدبلوماسية وفق توصيات الأمم المتحدة وميثاق حفظ السلم والأمن الدوليين، بل نتيجة لمنطق القوة والضغوط على مبعوث الأمم المتحدة ووزير الخارجية الألماني.

ثالثا، تميل الدبلوماسية المغربية في الغالب إلى أن تكون هادئة أو “مهذبة” أكثر من اللازم عملا بقاعدة “اللّبيب بالإشارة يفهم”. وهذا المنطلق للأسف لا ينفع مع دول تعتقد أنّ لها “وصاية سياسية” على الليبيين، مثل تركيا والإمارات ومصر.

كان ينبغي على الرباط منذ أشهر تبنّي منطلق استباقي pro-active، وليس التقوقع في مربع الانتظارية وردّ الفعل. كان من الأجدى الترويج لخطاب “اتفاق الصخيرات هو الحلّ”، في مواجهة مشاريع بعض الدول لفرض السيطرة على الغرب الليبي أو الإنزال العسكري لكسر شوكة الجنرال حفتر ودحر قواته نحو الشرق.

يا حبّذا لو استخدمت الرباط منذ أشهر كافة قنوات الاتصال مع مكتب المستشارة ميركل في برلين والأمين العام غوتيريس في نيويورك للتشديد على أن المغرب، كإحدى دول الجوار الإقليمي مع ليبيا، يريد مواصلة دوره الدبلوماسي في استكمال تطبيق مسار الصخيرات، وأن القضية الليبية قضية مغاربية بحكم الجغرافيا السياسية أكثر من أهمية استراتيجية المصالح الإماراتية أو التركية، أو غيرها من الدول التي تريد التحكم بواسطة “تيلي كومند” عن بعد في شؤون ليبيا.

 لماذا في رأيك حذرت سفارة الولايات المتحدة رعاياها بضرورة توخي الحذر بالمغرب، وتوقيف مناورات “أسد-البحر الإفريقي بين البحرية الملكية والمارينز؟

تأجيل أو إلغاء المناورات المشتركة المقررة سابقا ضرورة أمنية لا بدّ منها في مرحلة تؤرّق الدبلوماسيين والجنود الأمريكيين في الخارج، بسبب ارتفاع مستوى القلق والتحسب لديهم لأي تفجير أو عمل عدائي من إيران أو وكلائها عبر المنطقة وبقية العالم. ومن مضاعفات الأزمة أنها تساهم ضمنيا في تغليب نسق مكافحة الإرهاب والتنميط العدائي على فرص الدبلوماسي والحوار بين الحكومات.

أصبحنا أمام تنميط التفاعل بين الدول بما هو أمني في المقام الأول، وستتأثر العلاقات الاقتصادية وحرية التجارة ضمن هذه الانطوائيات على الذات. كانت السياسة الخارجية الأمريكية في العقود الخمسة الماضية تحدّد سياستها إزاء المغرب، وكلّ المغرب الكبير ضمن نسق تغلب عليه “مركزية” الشرق الأوسط، واعتبار الملك الراحل الحسن الثاني حليفا إقليميا رئيسا.

واليوم، تدخل الأزمة الإيرانية إلى عمق السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط والخليج. هناك احتمال أكيد أن تدور إدارة العلاقات الأمريكية المغربية والمغاربية إجمالا في فلك ما تنتجه دائرة المواجهة الإيرانية الأمريكية. لم يخرج الشأن المغربي والمغاربي من دائرة الشرق الأوسط في خطط الأمريكيين إلا ليدخل دائرة المعركة الكبرى: أمريكا وإيران! وهذه وصاية سلبية مفروضة بحكم الجغرافيا السياسية وتحديات السياسة الترامبية، بقدر ما تعكس تقوقع دول المغارب في وصاية لم تكن من اختيارها أساسا.

كيف تنظر إلى العلاقات المغربية الإيرانية دبلوماسيا؟

خلال العشرية الماضية عقب تولي الملك محمد السادس الحكم، تباينت خيارات الرباط في بلورة سياستها إزاء إيران بين ثلاث مدارس تفكير: 1) تطبيع العلاقة مع طهران بشكل عادي، 2) التعامل الحذر ودبلوماسية الاحتراس من مشروع إيران في المنطقة، أو 3) القطيعة الدبلوماسية، خاصة بالنظر إلى موقف طهران من قضية الصحراء، وما اعتبرته الرباط “معطيات ملموسة” عن دور حزب الله في ترتيب “مشروع تدريب” أفراد من جبهة البوليساريو، مما أدى إلى إغلاق السفارة الإيرانية في الرباط في 2018.

كان انتعاش التقارب المغربي الإيراني عام 2016 قصير النفس بعد قطيعة سبع سنوات. هي قطيعة بفعل تداعيات قضية الصحراء تنبني على قطيعة سابقة عندما وقع الشرخ الدبلوماسي بين الرباط وطهران في مارس 2009 بسبب مخاوف المغرب من انتشار التشيّع، أو ما اعتبره “تدخّلا في شؤونه الدينية”. يبدو أن خيار القطيعة مع طهران هو الغالب في حسابات المغرب، وأن شكلت الأزمة الراهنة بين واشنطن وطهران عنصرا إضافيا في تماسك خيار القطيعة الدبلوماسية تحت ثقل الوزن الاستراتيجي للحد من التشيع وتهديد موقف المغرب من قضية الصحراء.

هل الورقة المذهبية، أي وجود شيعة مغاربة، يمكن أن تلعبها إيران؟

هذا سؤال يستحضر عدة تقاطعات بين الجغرافيا الديمغرافية، ومكانة التقية في الفكر الشيعي، وقضية الولاء الأول بين “ولاية الفقيه” و”أمير المؤمنين”. تقديرات عدد المغاربة المتشيعين تتراوح بين 600 فرد، حسب بعض الأبحاث، و10000، حسب ما توصل إليه تقرير وزارة الخارجية الأمريكية بشأن الحريات الدينية في المغرب عام 2015. هناك، أيضا، متشيعو الجالية المغربية في الخارج، خاصة في بلجيكا، حيث تفيد بعض التقارير بمجموع 25000، متشيع بينهم في بروكسيل ومدن بلجيكية أخرى.

لكن الأهم هل للشيعة المغرب دور سياسي حتى يمكن الاستشعار بدور إيراني ضمني محتمل. ليست هناك مؤشرات عملية على هذا المنحى، باستثناء موقف “الاتحاد الشيعي المغربي” (الخط الرسالي بالمغرب) عام 2014 من تطورات الأزمة السورية، وكيف أدان مشروع التدخل الأمريكي في سوريا، والذي لم يتم إبان حكم باراك أوباما.

وشدد شيعة المغرب على أن مستقبل سوريا ينبغي أن يحدَّده السوريون وليس القوى الخارجية، وأن من شأن التدخل الأمريكي أن يقوي شوكة تنظيم “القاعدة” وزيادة العنف في الأراضي السورية. ليس دور شيعة المغرب محوريا لدى طهران في خدمة مشروع “الهلال الشيعي”، بغض النظر عما يعتبرونه تشيعا باطنيا.

ويحضر الهاجس من التشيع المغربي في ثنايا ما أصبح خطة أمنية دينية أو “الأمن الروحي” لغرس معتقدات المغاربة في المذهب السني بروافده المالكية، أملا في انحسار التشيع المغربي على الطريقة الإيرانية.

تموقع المغرب الجغرافي والثقافي والديني، هل يجعله في منأى عن اضطرابات الشرق؟

لم نعد في عصر القلاع عالية الأسوار أو حقبة السيادة الكاملة على الأرض والرعية. هذا قرن جديد دخلنا فيه مرحلة ما بعد العولمة التي طغت على العلاقات الدولية في الثمانينيات بحكم تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات والرأسمالية عابرة الحدود وتقدم سبل السفر وحرية الحركة بين القارات.

قد تتمسك الحكومات بأمن الحدود وسيادتها على مجالات حيوية في السياسات العامة سواء في المغرب أو الجزائر أو العراق أو إيران.

لكن من الناحية الواقعية ومنذ الانتفاضات الشعبية عام 2011، مرورا بما حدث ويحدث في السودان والجزائر ولبنان والعراق منذ العام الماضي، أصبحت المنطقة بين المحيط والخليج في بحر متلاطم الموجات وتجليات التنافس الإقليمي والدولي: هناك دول خليجية تحاول تكريس “وصاية سياسية” على المغرب الذي تعين عليه الحد منها في أزمتين متتاليتين مع السعودية والإمارات قبل أكثر من عام. وسيزداد ميول المغرب نحو الخروج من دائرة التقاطعات غير الاستراتيجية بالنسبة إليه، وإعادة النظر في تركيب علاقاته مع الشرق والغرب أيضا. سؤالك يعيدني إلى سؤال طرحته خلال مرحلة الدراسة في جامعة لندن في أواخر الثمانينيات: هل المغرب مغرب، والمشرق مشرق، فهل يلتقيان؟ باختصار، لن يلتقيا سياسيا ولا مذهبيا.

 وضع متأزّم دوليا وإقليميا (ليبيا وحراك الجزائر)، وتزايد المطالب الاجتماعية في المغرب وحملة انتقادات لوضعية حرية التعبير .. كيف ترى حال المغرب؟ وكيف تقيم تعامل السلطات المغربية في هذا السياق مع الوضع الداخلي؟

يعيش المغرب حقبة غير إيجابية في مجال الحرّيات العامة، بدأت بالتوجّس من حركات الاحتجاج عام 2011، وازدادت تشنّجا خلال مظاهرات الحسيمة وبقية تجلّيات حراك الريف. وتتقارب مؤشّرات مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية في أمريكا وأوروبا في تصنيف المغرب في مراتب متدنية منذ عام 2017.

في نظري، هناك عاملان رئيسان وراء هذا التردّي في مجال حقوق الإنسان: أوّلهما معضلة الاتّكال على النّسق الأمني، والإمعان في المتابعة القضائية، واستخدام “مطرقة القانون” في جلسات المحاكم. وللأسف، طغت على ملف حرية التعبير في السنوات الثلاث الماضية معادلةُ “اطحن مّو، اسجن مّو، قلّب مّها” في مسعى انفعالي، وليس عقلانيا، لاحتواء عدد من نشطاء المجتمع المدني وسط تزايد الحنق المتنامي من الأسفل إلى الأعلى بين المغاربة. مما يزيد في هذا التقوقع داخل مربّع النسق الأمني شعور بعض الجهات التي تعمل في الظل بأنّها تخوض “صراعا وجوديا” بدأ عام 2011 وعاد شبحه عام 2019. 

أما المعضلة الثانية، فتنمّ عن تراجع جلّي في القدرة على الابتكار السياسي لدى النخب الأمنية والسياسية، واستدامة بعض المفاهيم والإجراءات التي تبنتها الأجهزة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكأنها “صالحة” لكل زمان وكل مكان.

وقد يتفادى البعض القبول بمقارنة برغماتية مع تجارب دول أخرى تشهد مطالب شعبية مماثلة، ويجدون في سردية “الاستثناء المغربي”، أو “الخصوصية المغربية” تبريرا لعدم إدارة هذه المرحلة بمنطقات ومبادرات بديلة. بالنّظر إلى مصير النّخب السياسية والأمنية ومطالب الشارع في عدّة دول منها الجزائر وتونس ولبنان والعراق بين، تصاعد شعار المرحلة من “ارحل” عام 2011، إلى “الشعب يريد” عام 2019.

ويبدو أن نفسية الانتظار لإصلاح موعود طيلة ثماني سنوات وصلت حدّ الإحباط واليأس، فأصبح خطاب الاحتجاج يتجاوز ما كان يشكل parchoque أو عازل الصدمات بين الحنق الشعبي وفشل الدولة في تحقيق إصلاحات فعالة. وفي ثنايا خطاب الاحتجاج الشعبي، ارتفع مستوى تحديد المسؤولية في هرم الحكم. بمنطق التعامل مع حراك الريف كأحد النزاعات الاجتماعية الممتدةProtracted social conflicts، لا يبدو أن لدى الرباط سعة النفس وبرودة الأعصاب للقيام بمراجعة متريثة أو تأمل جدّي في ميزان الرأسمال السياسي الرّاهن بين الدولة والمجتمع، وبلورة رؤية متنورة لمصالحة وطنية جريئة. 

والشرق على عتبة أزمة جديدة، هل المغرب على أبواب انفراج سياسي  يقيه عدوى ما يحدث في المنطقة؟

بحكم الجغرافيا السياسية وتأثير الثّورة الرّقمية وتفاعل المجال العام بين المشرق والمغرب، ينبغي استحضار ثلاثية السياق والديناميات والمآل. إذ إن سياق الاحتجاج الشعبي ينطوي على سببية متشابهة مستمرة، وهي تراكم مطالب الإصلاح بتوفير وظائف جديدة، وتكافؤ الفرص، والقضاء على اقتصاد الريع أو منظومة “خدام الدولة”، وغيرها من دواعي الحياة الكريمة في بلد منصف وعادل إزاء مواطنيه سواء في دول المشرق أو المغرب. لكن ديناميات أو أساليب التعامل الرسمي مع حركات الاحتجاج المختلفة تتباين بين دولة وأخرى.

وليس من الحكمة أن يخرج المغرب وريث التنوير الرشدي الأندلسي عن المسار الراهن الذي تنفرد به تونس والجزائر، على خلاف دول المشرق كسوريا واليمن والسعودية ومصر، في إدارة معركة الإصلاح دون عنف أو إقصاء أو مغالاة في النسق الأمني الذي قد يمثل “حلا” على المدى القصير، لكنّه سيغدو نقمة على المدى الطويل.

كان للمغرب السبق في العدالة الانتقالية بتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004، وأصبحت تجربة تونس تستقي دروسا وعبرا منها. 

أتساءل اليوم، لماذا تتردّد الرباط في تبنّي مشروع مصالحة ومواطنة متكافئة مع مغرب الريف، ومغرب المناطق المضطربة، ومغرب الشتات في هولندا وبلجيكا، وبقية مكونات المجتمع المغربي وإن اختلفت الرؤى السياسية والثقافية.

حراك الريف غيمة اجتماعية وسياسية لا ينبغي أن تخفي خلفها أفق السماء المنفتح على مغرب التعددية والمواطنة المتكافئة وتجاوز إنتاج سرديات عداء تجاوزتها المرحلة الراهنة. فمتى يكون المغرب في قلوب ريافة، ومتى ينفتح قلب الرباط على محبة أهالي الريف!

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Abou Imrane منذ 4 سنوات

حوار ممتاز

التالي