يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها).
كان غزو هولاكو لبغداد والفساد الذي أحدثه فيها من أكثر المآسي التي شهدها تاريخ المسلمين حتى ذلك الوقت، ولكي ندرك حجم ما حصل، يتعين علينا أن نفتح تاريخ ابن الأثير ونقف عنده طويلا، لنجده يتلعثم من الحزن وهو يصف ما جرى. يقول هذا المؤرخ العظيم: «لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها».
ويقارن ابن الأثير ما حصل للمسلمين في بغداد بما حصل لليهود على يد بختنصر، الملك الكلداني الشهير، في القرن السادس قبل الميلاد في ما يعرف بالسبي البابلي، لأن هذه كانت أكبر إبادة جماعية يذكرها التاريخ حتى ذلك الزمن، فيقول: «ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة لما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج»؛ ثم يقول: «وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
ولعل الاستغراب الذي عبر عنه جملة من المؤرخين الأوروبيين بعد ظهور التتار بقرون هو ما عبر عنه ابن الأثير قبل ذلك، وهو الذي عاش في العراق إلى أن توفي عام 1233، بعد سنوات قليلة فقط من الغزو المغولي، كأن هؤلاء قرؤوا ما كتبه هذا المؤرخ المسلم البارز، فقد كتب يقول متعجبا من سرعة تحرك التتار من أطراف الصين إلى تركستان وبلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، ثم خراسان والري وهمدان قبل وصولهم إلى العراق، في مدة قصيرة لا تتجاوز عاما: «هذا لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدا، إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلافا وسيرة، في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقب وصولهم إليه»، وأثار التعجب نفسه المؤرخ الفرنسي المعاصر جورج مينوا: «كيف أمكن لمائة وخمسين ألف مقاتل فقط التحكم في ملايين الكيلومترات المربعة كما نراها على الخريطة؟».
وهكذا انتهت الخلافة العباسية تحت معاول التتار بعد خمسة قرون وخمس وعشرين سنة، تولى الحكم خلالها ثمانية وثلاثون خليفة، وطويت صفحة بغداد كحاضرة إسلامية للعلوم والمعارف والصناعات، فانتقل مركز الثقل إلى الشام ومصر، وانتقل معه معقل الخلافة إلى القاهرة. وبعد تدمير بغداد، عبر هولاكو نهر الفرات وتوجه إلى حلب فحاصرها وقتل الآلاف «وبقي القتل والسبي خمسة أيام». ثم سار نحو حماه فحاصرها، واندفع نحو دمشق فهدم حصونها، وترك بالشام جنودا له وعاد راجعا. ووصلت أخباره إلى القاهرة، فجهز السلطان المظفر سيف الدين قطز جيشا قويا لمواجهة التتار، والتقى الجمعان في مكان يسمى عين جالوت قرب بيسان شمال شرق القدس عام 1260 للميلاد، 658 للهجرة، وكانت المعركة الحاسمة في التاريخ العربي الإسلامي التي حملت الاسم نفسه، وانتصر المماليك بقيادة سيف الدين قطز وقتل القائد التتاري كتُبغا الذي بعثه هولاكو مع الجيش، وتمكن المماليك بعد ذلك من توحيد مصر والشام على مدى مائتين وسبعين سنة.
لكن الخلافة لم تنته نهائيا كأفق مطلوب لدى جميع السلاطين بعد ذلك، وفي ظل الصراع العنيف الذي كان لايزال مفتوحا مع الصليبيين والتتار، حرص سلاطين مصر على أن يجعلوا الخلافة العباسية مظلة يستظلون بشرعيتها، كنوع من إبقائها حية في نفوس الناس، وكرسالة أيضا إلى خصوم المسلمين. ففي العام 1262 للميلاد 661 للهجرة، طلب السلطان المملوكي الملك الظاهر ركن الدين بيبرس مجيء الحاكم بأمر الله، آخر من تبقى من أسرة بني العباس بعد مقتل المستعصم، إلى القاهرة، ثم بايعه بالخلافة بمحضر الجميع، لكن بالمعنى البروتوكولي فقط، ودون سلطة تنفيذية. ويروي المقريزي أنه في الثامن من شهر محرم الحرام العام 661، جلس الظاهر بيبرس ومعه أهل الحل والعقد، وأُحضر الحاكم بأمر الله، ثم قرئ نسبه العباسي أمام الناس وبايعه الجميع، ولقب بالإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، «فلما ثبت ذلك، مد السلطان يده وبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أعداء الله، وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود وإقامة الحدود، وما يجب على الأمير فعله في أمور الدين وحراسة المسلمين»، ولما وقعت البيعة، «أقبل الخليفة على السلطان وقلده أمور البلاد والعباد، وجعل إليه تدبير الخلق، وأقامه قسيمه في القيام بالحق، وفوض إليه سائر الأمور وعلق به صلاح الجمهور».
وفي يوم الجمعة الموالي، خطب الخليفة الصوري بالناس، ومما قاله: «الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا ظهيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا»، وبعدما تحدث عما وقع في بغداد من قتل وتدمير وإفساد وقتل وحشي للخليفة، قال: «فلم تبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين، وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرط جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا». وقد بقي في منصب الخلافة أربعين سنة وشهرا.
ومن هناك شرع الظاهر بيبرس في شن الغارات على الصليبيين في كل مكان، فقد كان يريد إحياء مجد صلاح الدين الأيوبي، وكان يزعجه أكثر أن حكام المدن التي كان يستولي عليها الصليبيون كانوا يعقدون أحلافا مع حكام فارس الذين يميلون إلى النصرانية، فانطلق يهاجمها الواحدة تلو الأخرى، وهكذا أعاد منطقة الكرك التي كان يحتلها النصارى، ثم استعاد قيسارية وأرسوف وقلعة الداوية في صفد ويافا في فلسطين وأنطاكية، وعندما تولى الناصر بن محمد قلاوون السلطة بعده، كان المسلمون قد استعادوا الكثير من المناطق التي كانت بحوزة الصليبيين، لكن أمام هذا الأخير أشواط أخرى تنتظره في الطريق.