لست أدري السبب الذي دعاني إلى استحضار خلاصات عبدالله العروي في أطروحته: «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية» بشأن موقف السلطة زمن الأزمة المالية وزمن التسرب الأوروبي، وكيف كانت تدير الموقف مع ثلاثة فاعلين، الفاعل الأجنبي، الذي يتخفى وراء الإصلاحات لاحتلال المغرب، والتجار الذين كانوا يسعون إلى تحصين مصالحهم بمقاومة أي تضريب يأتي على مصالحهم، والعلماء الذين كانوا يؤسسون لتصور مقاوم للإصلاحات، يسائل سلوك الجماعة والسلطة على السواء.
هل نعيش اليوم، الحال ذاته باستمرار الفاعلين الثلاثة؟
بالتأكيد لا، على الأقل، من جهة تراجع سلطة العلماء ودخولها في مؤسسات الحقل الديني وحدوث تحولات في الوظيفة الدينية.
العلماء اليوم تراجعوا، لكن تراجعهم لا يعني بالضرورة عدم وجود فاعل ثالث أو قوة أخرى، تقوم اليوم، الدور عينه الذي كانوا يقومون به في الماضي، على الأقل، من جهة مقاومة التطلعات التي تُفضي إلى انهيار سيادة الدولة.
لا أريد أن أتورط في نقاشات، ربما، أرادت النخب التي تدير النخب أن نكون أدوات في إشعالها. فلا يهمني في حدث مشروع قانون الشبكات الاجتماعية، الحيثيات الصغيرة، التي تتعلق بالطريقة التي جرت بها برمجة هذا المشروع، والأسلوب الذي اعتمد في التصويت داخل مجلس الحكومة، ولا حتى مسألة تسريب المشروع في الوقت التي دبرت فيه الحكومة طريقة الحسم في قضاياه المختلف حولها.
نقاشي مختلف تماما، لأنه يريد التحرر من الأحابيل التي تمنع الوعي بحقيقة لعبة النخب التي تدير النخب، ذلك أنه ينطلق، أساسا، من سؤال الدوافع البعيدة لتضمين مواد تمس بالحرية على نحو «ستاليني» بهذا المشروع، في زمن تعبئة الإجماع الوطني لمواجهة وباء كورونا.
وحدهم المساكين وصغار الموظفين، وربما، متوسطيهم مشغلون كل يوم بمتابعة ندوة السيد اليوبي، مستبشرين مرة، ومتخوفين مرة أخرى، أما التجار، أو بالأحرى كبارهم، فالذي يتابع خطابهم، يرى أن عينهم على ما بعد كورونا، يجعلون من الضرر الذي لحق ببعضهم، المظلومية/ الذريعة، أو قميص عثمان لتنفيذ ما عجزوا عن الوصول إليه زمن التراتيب الديمقراطية العادية، ربما، لأنهم يقرؤون بحاستهم البراغماتية تحولات العالم، ومؤشرات انفلاته من شبكة المعايير الديمقراطية الصارمة، فيريدون أن يُباغتوا الجميع، ويأخذوهم على حين غرة، فيمررون الشروط والقواعد التي تضمن الهيمنة والنفوذ. قبل أيام، قرأنا لسياسي من رجال المال، ويعبر عن لوبيات المصالح، مقالا كُتب له، يحذر بلغة شديدة من عودة خطاب التوازنات الماكروــ اقتصادية، ويستشرف مستقبل ما بعد كورونا، ويحدد خيارا واحدا لا غير، أن ننتهي من فوبيا الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وأن ندعم المقاولة ونعول عليها لأنها هي من سيحرك النمو ويحل مشكلة البطالة، ويخلق الثروة. لكن مسارا طويلا من سياسات دعم المقاولة، لم ينتج الثروة الموعودة. نعم، ساهم النسيج المقاولاتي في تحريك معدلات النمو، لكنه لم يمنع الدولة من التساؤل أين الثروة؟ بل دفعها للتساؤل عن السبب الذي يجعلها لا تصل إلى كل الشرائح؟ نتابع تصريحات الفهلوة لوزير الصناعة والتجارة، الذي يمثل هو الآخر المال والأعمال، يتحدث عن الفرص غير المسبوقة التي سيوفرها عالم ما بعد كورونا، ويتحدث عن الإمكانات والقدرات التي أظهرها المغرب زمن غياب قواعد الشفافية والحكامة، وندرك منها أن للتجار منطقهم، وهو ليس بالضرورة منطق الدولة.
أتابع غضب رجال الصحافة والإعلام من مقتضيات قانونية تخص الحجر الصحي تحد من حريتهم، وكيف أنصفتهم الدولة ووقفت مع حرية التعبير، فأكتشف أن الدولة، لا تساير منطق كبار التجار أو النخب التي تدير النخب.
جمهور المداويخ، القابعون في البيوت، لم يمنعهم الحجر الصحي من التحول إلى قوة حاشدة، ناقمة وساخرة من إرادة بعض النخب المعبرة عن طموحات كبار التجار تحويل مغرب الانفتاح الديمقراطي إلى نموذج شبيه بكوريا الشمالية.
لا يهم أكانت هذه القوى مختلفة أو شبيهة بقوة علماء أمس، لكن ما يهم أن ثمة قوة في المجتمع، تأخذ أكثر من شكل، افتراضي أو واقعي، تفهم تطلعات التجار، وتدرك أن عدم مقاومة الدولة لها، سيجعلها غير بعيدة عن المصير الذي عانته لحظة توسع التجار في علاقاتهم التجارية مع أوروبا بما أضر مصالح الاقتصاد الوطني، وأيضا لحظة احتموا بالاستعمار، وحاصروا الدولة من خلال اصطفافهم إلى جانب أعدائها، فلم تنفع فتاوى العلماء بحرمة الاحتماء الأجنبي، لأن الواقع كما قال العروي تجاوز تطلعات ويوتوبيا العلماء.
تحتاج السلطة أن تدرك في هذه اللحظة العصيبة أن الاستقرار ليس هدية من التجار، وأن التجار أنفسهم لا يأكلون من الكتف إلا في ظل استقرار لم يكونوا صانعيه، وأن ما يضمن الاستقرار، ويلجم تطلعات التجار السياسية غير المشروعة، وإلزامهم باللعب ضمن المصلحة الوطنية، هو الاحتماء بالشعب وبالنخب الإصلاحية فيه.