يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها).
وقد اشتهر ابن تيمية منذ صغره بقدرته على الحفظ، حتى إن تاج الدين السبكي نقل عن والده الشيخ تقي الدين السبكي قوله: «ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية، والمزي، فالأول أعرفهم بالعلل وفقه الحديث، والثاني بالأنساب، والثالث بالمتون، والرابع بأسماء الرجال». وقال عنه شمس الدين بن قدامة المقدسي: «كان بحرا لا تكدره الدلاء، مُحَبرا يقتدي به الأخيار الألباء، ضنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، واشتغل بالعلوم، وكان ذكيا كثير المحفوظ إماما في التفسير وما يتعلق به، عارفا بالفقه واختلاف العلماء والأصلين والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك»، وزاد قائلا: «لم يبرح شيخنا في ازدياد من العلوم، وملازمة للاشتغال وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبيل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل والزهد والورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
وقال عنه أحمد شهاب الدين العمري الشافعي: «جمع أشتات المذاهب وشتات الذاهب، ونقل عن أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقتربا، أو مالك لأجرى وراءه أشبهه ولو كبا، أو الشافعي لقال ليت هذا كان للأم ولدا وليتني كنت له أبا»، ويعني بالأم كتاب «الأم» للشافعي، ثم قال: «وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ قليل النسيان، قلما حفظ شيئا فنسيه، وكان إماما في التفسير وعلوم القرآن، عارفا بالفقه واختلاف الفقهاء والأصلين والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية».
وعندما اشتد عوده وطار صيته لقب بشيخ الإسلام، وهو لقب لا يعطى إلا لكبار العلماء المجتهدين المستقلين الذين يجمعون بين العلم والعمل، ويقصدهم الناس، ويتتلمذ على أيديهم خلق كثير، وينقل تاج الدين السبكي عن الحافظ أبي الحجاج المزي أنه لم يكتب بخط يده لفظة شيخ الإسلام إلا لثلاثة فقط، هم ابن تيمية، وتقي الدين السبكي، وشمس الدين بن أبي عمر.
وعرف منذ وقت مبكر من حياته بقوته في المناظرات العلمية، حتى قال عنه الذهبي: «ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، قلت وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي». كما كان له باع عريض في علوم القرآن والتفسير، حيث يقول الذهبي أيضا: «وأما التفسير فمسلم إليه وله في استحضاره الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة»، وكان يقضي كل يومه وشطرا من ليله في التعلم والكتابة، إذ يقول الذهبي مرة أخرى: «ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحوا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعُد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد».
ورغم خصومة الكثير من العلماء والفقهاء له، فإن كثيرين اعترفوا له بعلمه الواسع وقدرته على الجدال والمناظرة، مثل قاضي القضاء في حلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. فبالرغم من أنه كان أحد خصومه ورد عليه في مسألتي الطلاق والزيارة الشهيرتين، كما سنرى في فصول لاحقة، فقد قال عنه: «لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة الصياغة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان له (الله) العلوم كما ألان لداود الحديد». ويعترف الذهبي بأن الرجل كان حوله انقسام بين المحبين والمبغضين: «وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا بلسانه وقلمه»، ويزيد قائلا: «وهو أكبر من ينبه مثلي على نعوته، فلو طفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأت عيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم».
وبالنظر إلى هذه الخلفية العلمية والفكرية التي تسلح بها منذ بواكيره الأولى، وخبرته بالواقع وبمحيطه الديني والسياسي، فقد اختط لنفسه منهجا مخصوصا جعله في مواجهة معاصريه من العلماء والفقهاء الذين كان بعضهم لا يستسيغ الخلاف أو الخروج عما جرى الاتفاق عليه؛ فهو لم يكن يحتكم إلا لما أدته إليه الحقائق العلمية التي يتوصل إليها بعقله دون تقليد لأحد من العلماء أو دخول تحت مذهب معين. ولنا أن ندرك أن الخلافات الكثيرة التي حصلت له مع علماء عصره، بمن فيهم الحنابلة، كان مردها رفضه للتقليد. ويسجل الذهبي أن ابن تيمية جاء بأمور لم يتجرأ الكثيرون على الخوض فيها، حيث يقول: «ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون، وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن، ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده».