في ظل جائحة كوفيد ــ 19، اختارت «أخبار اليوم»، أن تنشر سلسلة من الحلقات من كتاب مرجعي بعنوان: «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19»، لمؤلفه المؤرخ الراحل محمد الأمين البزاز، الذي اشتغل أستاذا بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويعد الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أشرف عليها المؤرخ جرمان عياش أشهرا قبل رحيله سنة 1990.
في بداية عهد مولاي عبدالرحمان بن هشام، )1822-1859(، وبعد مضي أربع سنوات على الطاعون السابق، تعرضت البلاد لأزمة طاحنة أخرى، ظلت عالقة في الأذهان لمدة طويلة، ولم تنحسر ذكراها إلا بعد أزمة 1850 التي كانت أشد منها وقعا. بدأت المعالم الأولى لهذه الشدة مع محصول 1824 الذي جاء دون المتوسط المعتاد، ثم جاء فصل الخريف بموجة قاسية من البرودة وأمطار طوفانية تسببت في خسائر جسيمة بمنطقة فاس تحدث عنها ابن عبدالرحمان صاحب “التذكرة”، بقوله “فاحتملت أوديتها من السيل ما لا يعلم إلا الله وانحدرت على وادي فاس عن افتتاح العدوتين، عدوة الأندلس وغيرها، ووصلها بعد العشاء على حين غفلة من أهلها فأغرق ما بها من الديار والأسواق.. ومات من الخلائق العدد الكثير”. بعد هذه الفاجعة انقطعت الأمطار وتواصل الجفاف مما قضى تماما على المحاصيل، ومنذ بداية يونيو 1825 اشتعلت الأسعار وكتب حينها القنصل الفرنسي سوردو، يقول: “إن ثمن القمح في المغرب أغلى منه في فرنسا”، ثم ازدادت الأسعار حتى خُيل للناس أنه لم يسبق لها نظير، “وفي سنة 1241 هجرية في المغرب كان الغلاء المفرط الذي لم يحدث أحد بمثله”. واشتدت وطأة الغلاء أكثر من المناطق الداخلية. وفي محاولة للتخفيف على الناس من المعاناة ولامتصاص اضطرابات الجوع، قام مولاي عبدالرحمان بن هشام بتوزيع الإسعافات على المنكوبين وأذن للتجار بجلب الأقوات من الخارج محددا لهم الأرباح شفقة على الضعفاء. وقد امتدت عملية الاستيراد على نطاق واسع من فرنسا وإنجلترا وسيردينيا، وإسبانيا وحتى مصر وتونس. ومن يونيو إلى 9 نونبر 1825 جرى استيراد حوالي 172 ألف فانكة )الفانكة تساوي 56 لترا(، من القمح عن طريق ميناء طنجة وحدها. وفي المدة عينها استوردت موانئ تطوان والعرائش والرباط، حوالي 174 ألف فانكة، وكان ثمن هذا القمح يؤدى نقدا بالريال الإسباني وبسعر ريالين لكل فانكة.
وخففت العملية الاستيرادية من الغلاء والجوع في الموانئ، ويتضح ذلك من هبوط ثمن القمح، إلا أن الصعوبة تمثلت في تحريك الأقوات المستوردة بعد هلاك عدد كبير من الدواب وهي الضحية الأولى للجفاف. هذا بالإضافة إلى أخطار المسالك التي كانت ملغومة بقُطّاع الطرق. ويصور لنا صاحب “الابتسام” أزمة النقل هاته قائلا: “وكان الناس يأخذون الدراهم ويذهبون للمراسي ويتسوقون ويحملونه على الإبل، فيذبحهم العرب في الطرق فلا ينجو منهم إلا القليل من شدة ما عليه الناس من الجوع”. وأدت هذا الأزمة بالقرويين إلى الهجرة طلبا للغوث. ومنذ شهر ماي شاهد السفير الفرنسي سوردو، أثناء مرافقته السفارة الفرنسية إلى فاس، أسرا بكاملها تائهة في السبل بعدما غادرت أراضيها بحثا عن لقمة عيش. وكانت طنجة في بداية أكتوبر مليئة بالمهاجرين يجوبون الحقول بنواحيها بحثا عن الجذور، وحصاد ما تبقى من النبات، واستعمل الجائعون وسائل أخرى، فيذكر الرحالة “بروك” أنهم أكلوا جميع كلاب المدينة. وهو ما يؤكده صاحب “الابتسام” بالنسبة لما وقع في جهات أخرى “وفي هذه المسغبة أكل الناس الكلاب والقطط والجيف”.
بيد أن كل هذه الوسائل لم تحل دون هلاك الكثيرين جوعا. في بداية أكتوبر كان يموت عشرة أشخاص إلى خمسة عشر شخصا، بالإضافة إلى هؤلاء “الأشقياء الذين يوجدون صرعى وسط الحقول والبساتين المجاورة للمدينة”. كذلك الأمر في السواحل الأخرى، حيث يخبر الرحالة بروك، أنه شاهد بين المهدية وسلا، ركاما من هياكل الجثث البشرية وقد نهشتها الطيور الكاسرة. أما في المناطق الداخلية فكانت الحالة أدهى. في فاس بلغ عدد الموتى خلال عدة أشهر 150 و250 في اليوم، بينما بلغت الخسائر في الملاح وحده 1800 ضحية.
وإلى الجوع ومآسيه انضاف وباء خطير قضى على عدد آخر من الناس. وقد عزا سوردو سبب ظهوره في طنجة إلى الجثث العديدة المتراكمة عند أبواب المدينة، وكذا إلى تهافت الجياع على الاقتيات بجثث الخيول والحمير والبغال والأبقار التي تركت ملقاة على قارعة الطريق.
واستمرت هذه الحالة على هذا النحو خلال جزء كبير من عام 1826، ولم تبدأ في التحسن إلا مع المحصول الجديد، حيث عادت المصادر المغربية تتحدث بتعبيرها المعتاد عن عودة الخصب والرخاء، “فرفع الله عن الناس الشدة ورخصت الأسعار ونزلت الأمطار وأخصب الأقطار”.
ومن خصوصيات هذه المجاعة في تاريخ المغرب، أنها ساهمت في تمهيد الطريق أمام انفتاح البلاد على التجارة الأوروبية. فقد أفقرت المجاعة مالية المخزن الذي اضطر لاستيراد الحبوب من الخارج بتكاليف باهظة، ولم يكن ممكنا تغطية العجز بالضرائب على الفلاحين الذين عانوا كثيرا، فكان الحل هو إحياء سنة الجهاد البحري التي كان مولاي سليمان قد أبطلها، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، أمام ردود فعل أوروبا، ولهذا قرر السلطان اللجوء إلى حل آخر هو تصدير الحبوب بعد عودة وفرة الإنتاج، ولهذا الغرض فتحت موانئ الجديدة والدار البيضاء والعرائش، فكانت تلك الثغرة التي استغلتها الدول الأوروبية المهتمة بالسوق المغربية لإقامة مراكز تجارية، وبالتالي، ساهمت المجاعة في انفتاح البلاد أمام التسرب الأوروبي.