يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربيوالإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديثفي هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلالإعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عنعدم نشرها).
بيد أننا يجب أن نبحث في هذا الذي سماه مرعي بن يوسف الكرمي «كراهية الشيخ وما آلمهم من ظهوره وذكره الحسن» وخلفيات ذلك. فحقيقة الأمر أن ظهور ابن تيمية فيالأوساط العلمية في دمشق أثناء بداية القرن السابع الهجري قلب موازين القوة التي كانت مستقرة في الماضي، فقد كان الحنابلة في موقع ضعيف قبالة المدارس الأخرى، لكن ما إنجاء ابن تيمية حتى أصبحوا في موقع قوة نظرا لعلمه وسمعته التي طارت في الآفاق وقدرته على الجدل والمناظرة، فكونه حنبليا عزز صفوفهم. وكان الحنابلة يُتهمون في السابقبأنهم مجسمة أو مشبهة كالحشوية، فقلب ابن تيمية هذا الرأي وأخذ يدلل على عكس ذلك، ويؤكد أنهم يتبعون الأثر في فهم العقائد كما يتبعونها في الفروع، فقوي سلطان الحنابلة.
في ضوء تلك الفتوى، اتهم ابن تيمية بالتجسيم، وعادت المعارك السابقة مع الحنابلة لتتجدد بعدما خفتت لبعض الوقت، ووجد خصومهم الفرصة للانقضاض عليهم من خلال التشهيربتلك الفتوى وصاحبها. وقد وجد هؤلاء في قاضي الحنفية جلال الدين الحنفي سندهم في تلك المعركة. واستدعي ابن تيمية من لدن بعض القضاة والفقهاء إلى دار الحديث الأشرفيةلمحاسبته، لكن ابن تيمية رفض الدعوة ورد على قاضي الحنفية بأن مهمته ليست القضاء في عقائد الناس، وأن السلطان ولاه لغير هذا، وهو الحكم بين الرعية. وعندما وصل الرد ثارخصومه ونودي في دمشق أن ابن تيمية ممنوع من الإفتاء، وكادت تقع فتنة، فتدخل سيف الدين جاغان، «وأرسل طائفة، فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم فرجعوامضروبين في غاية الإهانة، ثم طلب سيف الدين من قام في ذلك وسعى فيه، فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا».
وقد اختلط الأمر على شمس الدين الذهبي الذي ذكر أن مجلسا عقد لابن تيمية في دار السعادة بدمشق، حيث ناظره صفي الدين الهندي الأرموي، الذي كان أشعريا، وأن ابن تيميةسجن على إثرها. والحقيقة أن ذلك حصل بسبب تأليف ابن تيمية للعقيدة الواسطية لا الحموية، وأنه لم يسجن في الملف المتعلق بهذه الأخيرة، بل انتهت القضية بسلام بعد تدخلنائب السلطنة في دمشق.
ونلاحظ هنا أن ابن تيمية كان يرفض رفضا قاطعا تدخل السلطة أو القضاء في عقائد الناس، ويؤمن بالجدل والمناظرة، ويرى أن الفكر يقوم بنفسه لا بأي سلطة خارجة عنه تدعمهوتسانده، لأن الفكر المفروض عن طريق السلطة لا بد أن يكون على غير قواعد ثابتة.
ولم تكد تمضي بضع سنوات حتى حصلت المحنة الثانية، وكانت هذه المرة مع الصوفية القائلين بالاتحاد. وذلك أنه ظهر بالقاهرة عام 707 رجل صوفي يقال له نصر الدين بنالمنبجي، وكان من أشد خصوم ابن تيمية، واستولى على عقول أرباب الدولة بمصر وشاع أمره بين الناس. وتزامن ذلك مع عزل السلطان الناصر بن قلاوون عن الحكم وتولي الملكحسام الدين لاجين، وكان هذا الأخير يســـاير آراء بن المنبجي علنا. ووصلت إلى ابن تيمـــية وهو في دمشق أخبار تقول إن ابن المنبجي يؤمن بالاتحاد الصــــوفي، وإنه ينتصر لابنعربي وابن سبعين، فكتب إليه رسالة مطولة ينكر عليه ذلك، ووجـــــه رسالة أخرى إلى السلطان، وبـــدأ يلــــقي دروســــا حول مفهوم الاتحاد الصــــوفي ويهاجم القائلين به «فتحزبعليه صوفــــية وفقراء وسعــــوا فيه».
والرسالة لم يكن فيها عنف لفظي، كما نرى في بعض آراء ابن تيمية في بعض المواضع، بل إنها نموذج لآداب الحوار، وفيها لطف وتقدير كبيران، وتعكس رؤية ابن تيمية للأمربالمعروف والنهي عن المنكر المبنية على حسن المجادلة والنصيحة وتقديم الأدلة، خصوصا وأننا نعرف من خلال تجربته الواسعة أن ابن تيمية لم يكن من ذوي السلطان ولا ممنيتقربون إليه أو من يعتمدون على قوة الدولة لفرض رأيهم. فقد بدأ رسالته بإطراء ابن المنبجي على النحو التالي: «أما بعد: فإن لله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم عليه نعمة باطنةوظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين (يقصد هنا السلطان) الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، منزلة علية، ومودة إلهية، لما منحه لله تعالى من حسنالمعرفة والقصد». وبعد حديث طويل عن المحبة في الدين وعن التوحيد وكمال الشريعة، مشفوع بالآيات والأحاديث وكلام بعض الصوفية السنيين أمثال عبد القادر الجيلاني، انتقل إلىموضوع الرسالة فقال: «وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارةلطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد ولله واحدا بعينه، وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين، فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به».
ولكن مهما كان الكلام لطيفا ومهما كانت طبيعة المجادلة فإن المشايخ وأتباعهم الذين يرتبطون بالزوايا يصعب عليهم الفكاك منها، نظرا إلى أن ذلك يقضي على نفوذهم ومكاسبهم،فما إن تلقى ابن المنبجي الرسالة حتى حنق على ابن تيمية فتكلم مع قضاة مصر في الموضوع، واتهم ابن تيمية بالابتداع وخوف الناس منه، فسانده في ذلك القاضي ابن مخلوفقاضي المالكية، واستعان بالظاهر بيبرس، فطُلب للحضور إلى القاهرة لمناقشته في الموضوع وسؤاله عن عقيدته، على أن يعقد له مجلس آخر في دمشق للغرض نفسه. وفي الثانيمن شهر رجب من السنة نفسها، عقد مجلس في دمشق بحضور القضاة والفقهاء ونائب السلطنة، ولما تم الاجتماع، سأل نائب السلطنة ابن تيمية عن عقيدته وأظهر له مرسومالسلطان في القاهرة بذلك، فأحضر ابن تيمية عقيدته الواسطية وقال: «هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام»، وقرئت تلك العقيدة في المجلس، وجرى تعليقالاجتماع إلى وقت لاحق.